ويعود الزميل بوعشرين إلى نهجه الاستعلائي القائم على تزوير الوعي على قاعدة “إما معي أو خائن”
استوقفني من بين ما استوقفني وأنا أتابع باهتمام ما آل إليه الوضع العربي، في ضوء الحرب الوحشية على غزة ومضاعفاتها، ردُّ الزميل توفيق بوعشرين في صفحته “الفيسبوكية”، على بعض التعليقات بشأن تعزيته نصر الله، وموقفه منها شكلا ومضمونا.
والحقيقة أنني لم أكن لأهتم بالموضوع، لولا النبرة الاستعلائية التي طبعت تعقيبه على من ليسوا على سجيته، في ملفات الشرق الأوسط، وفي النبرة الملائكية التي غلّف بها كلامه عن حزب الله وزعيمه المغتال بوحشية لا تطاق، حسن نصر الله.
وتنكشف النظرة الفوقية لزميلنا توفيق، منذ البداية، عند اعتباره كل من يحسب حسن نصر الله، مجرد “قائد شيعي يقود حزبا مواليا لإيران”، قصير الفهم، حيث الرؤية يجب أن تكون على حد قوله “أعمق من الانتماء الطائفي أو الاحتباس المذهبي”. تلك الرؤية التي يوطّئ لها صديقنا بسيل من المصطلحات المُقتبسة من قاموس الإنشاء السياسي، على غرار “الموقف الاستراتيجي، ونظام ترتيب الأولويات، والعدو الأول والعدو الأخير، والحياة قوس واسع من الألوان،..”، وغير ذلك من المصطلحات المتشابكة التي يوظفها كتقنية حجاجية استدلالية للحشد والإقناع، و يُمهّد لها بتمويه خطير على شكل سؤال عاطفي غريزي أساسه تزوير الحقيقة، ومحاولة إعادة صياغة وعي المتلقي على مزاجه، بقوله :”هل نفرح مثلا، لأن المجرم نتنياهو اغتال شيعيا كان مناصرا للقضية الفلسطينية وقدم حياته ثمنا لهذا الموقف؟”. الربط هنا بين المجرم نتنياهو الذي لا لبس ولا غموض في أعماله الإجرامية الوحشية الدنيئة، وقد استنكرها العالم من أقصاه إلى أقصاه، وبين الزعيم حسن نصر الله الذي “وهب حياته”، على حد زعم بوعشرين، نصرة للقضية الفلسطينية، ينطوي على تحايل خطير، وتزييف مقصود للحقيقة. فالسؤال الذي نِصْفه حق (نتنياهو المجرم) ونِصفه باطل (نصر الله المناصر للقضية الفلسطينية)، يندرج في سياق عملية استقطابية تنويمية للمتلقي الذي يقع بسهولة، بحكم ضميره السياسي المحدود، ووعيه العاطفي الفطري، في فخ الاستقطاب والحشد، دون القدرة على الفهم أن المرحوم حسن نصر الله، لم يكن أبدا يتعامل مع القضية الفلسطينية من باب الإيمان بها، وبالمصير العربي المشترك، ولكن من منطلق الفتوى الإيرانية، بحكم ولائه وارتباطه الروحي والقتالي بمصالح إيران الاستراتيجية. وهو القائل في إحدى مناسبات يوم القدس:”من أراد أن يكون مع فلسطين، عليه أن يكون مع إيران، وإذا كنت عدُوّا للجمهورية الإسلامية، فأنت عدوّ لفلسطين”.
فالعداء لإيران، هو بمنظور نصر الله، عداء فطري تلقائي لفلسطين، أو كما لخص ذلك الزميل بوعشرين، ضمن رؤية بناها على منطق خُرافي مُتجاوَز، مفاده “عدوّ عدوّي صديقي”، وهو منطق عديم المعنى، يُدرجه الفقهاء عادة في سياق “من تمنْطق تزنْدق”، ويرفضه الوضعيون Les positivistes جملة وتفصيلا، لأنه يندرج في سياق القول بالشيء ونقيضه في آن واحد.
لا غرابة إذن في مقولة نصر الله، كون الرجل مطيع مُعلَن لإيران، يفتخر ويعتز بولائه لها، وليس للقضية الفلسطينية، كما جاء على لسان الزميل بوعشرين، الذي ربط في مقارنة عقائدية صورية، اغتيال الزعيم “الشيعي” على يد المجرم “اليهودي” نتنياهو، باغتيال المناضل “الشيوعي” الأرجنتيني، شي غيفارا، على يد الأمريكي “المسيحي”، متحاملا في ذات سياق النبرة العقائدية، على من أسماهم “فقهاء النميمة المنشغلين ببث سموم الفتنة”.
دعوة مني في هذا الباب إلى الزميل توفيق، الكف عن تزوير الوعي، على قاعدة “إما معي أو خائن”، والتخلي عن سعيه الحثيث في إعادة صناعة المتلقي على مزاجه، بما يكرس الالتباس، ويغذي التضليل وانعدام الثقة بين أبناء الوطن الواحد. فلسطين يا صديقي هي قضية استقلال وتحرر وطني فلسطيني، أولا. وهي قضية عربية خالصة مرتبطة بتقرير مصير شعب وحقه في أرضه المغتصبة، ثانيا. وليست لا قضية مات من أجلها نصر الله، كما جاء في كلامك، ولا قضية إيران وولاية الفقيه، بل هي مطية لتشييع المنطقة العربية بالكامل. ولا أظن أن هناك خدمة يمكن أن تقدمها إيران وحزب الله، ومن يسير في فلكهما للمجرم القاتل نتنياهو، أغلى وأثمن من جعل القضية الفلسطينية قضية شيعية إيرانية، أو قضية مواجهة علنية بين الإسلام المؤمن والغرب الكافر، كما ورد في المعادلة غير الموفقة التي أقامها صديقنا (شتان وشتان) بين اغتيال نصر الله واغتيال شي غيفارا.
والتنبيه إلى أن “الصراعات الدولية لا تُدرك بالعقول الصغيرة”، على حد قولك، هو استصغار وتحقير لمن يخالفك الرأي، مثلما هو اعتمادك على جاذبية سحر اللغة وسلطتها، وتنخيل كلماتك بدقة، بغرض السيطرة على عواطف المتلقي، وممارسة فعل التخدير والاستقطاب بسرعة، وفقا لقاعدة أرسطو القائلة بكون عامة الناس، يتأثرون بمشاعرهم أكثر من تأثرهم بعقولهم، وهم بذلك بحاجة إلى وسائل الإقناع أكثر من حاجتهم إلى الحُجج المُقنعة.
ولا أظنك صديقي الإعلامي “المقتدر”، جاهلا بعلم “تحليل المحتوى” L’analyse du contenu، وهو منهج علمي يقوم على تحليل فحوى الخطاب، وطبيعة المُرسَل إليه، وكيفية الإرسال، والهدف. ويقف عند العارفين به، على كل مُفردَة مُفردَة، كأداة لتفكيك النص بأكمله، واستقراء ما وراء الخطاب.
ويحز في نفسي، وقد تشرفت بتدريس بعض جوانب هذا المنهج بالمعهد العالي للصحافة بالدار البيضاء، ضمن مادة “تقنيات التحرير” Les techniques de rédaction ، كما حضرتُ وتتبعتُ بعض مؤتمرات القمم التي فشلتْ أو تعطلت في إصدار بيانها الختامي، بسبب الخلاف حول مفردة أو مفردتين في صياغة البيان. أقول، يحز في نفسي أن أقف مذهولا أمام مجرد “رفض” الزميل بوعشرين تدخل حزب الله في ملف الصحراء المغربية. والرفض في قاموس المعاني هو الاعتراض أو عدم الموافقة، مما يعني أنه لطّف مصطلحه (الرفض، بدل الإدانة أو الاستنكار) بشأن السياسة العدوانية لطهران التي انتقلت من تدريب ميليشيات مقاتلي البوليساريو، إلى تسليحهم عبر شحنات من الأسلحة المتطورة، والطائرات المُسيّرة، بهدف قتل المغاربة في عمليات إرهابية، يؤطرها ويشارك فيها حزب الله. وإذا كان العارف بمحتوى المضمون، أي الزميل بوعشرين، “يدين” بقوة اغتيال نتنياهو، ويكتفي من جهة أخرى ب”رفض” تآمر حزب الله على الوحدة الترابية المغربية، فإن المغاربة من أقصى المغرب إلى أقصاه، لا يرفضون، كما يرفض، تدخل حزب الله، بل “يندّدون ويدينون ويستكرون”، تدخله ودعمه الإرهابي للانفصاليين تدريبا وتسليحا، بغاية قتل المغاربة في المقام الأول، وخلق حالة من عدم الاستقرار بالمنطقة، تمهيدا لتشييعها وبسط نفوذ ولاية الفقيه فيها. وكفى وصفا لهؤلاء ب”العمى السياسي”، من فضلك !!!!