الأخبارركن الميداويمستجدات

متى كانت الكتابة بالفرنسية شعرا ونثْرا أداة طمس للهوية المتأصلة في الأدب المغربي؟

الخط :
إستمع للمقال

قراءة فاحصة للأدب المغاربي في جوانبه الإبداعية والنقدية (رواية ـ مسرح ـ شعر..) تدلُّنا على أنه مَرّ في مساره التراكمي بالمراحل نفسها التي عرفتها الكتابة العربية في بلدان المشرق، وأثبت قدرته على التفاعل معها تأثرا وتأثيرا. كما أن جانبا من هذه الآداب التي اعتمدت الفرنسية لغة للتواصل، تمكنت بفعل الواقع الإبداعي المغاير، من التحرر من سلطة المرجعيات العربية، وممارسة فعل التغيير في النسق الكتابي شكلا ومضمونا، مع التمسك بثوابت الوطن الذي هو الحاضن الأسمى للهوية وعمق الانتماء.

وإذا كان الفرنسيون يصرون على اعتبار الآداب المغاربية جزءا لا يتجزأ من الأدب الفرنسي، او يُدرّسونه في الجامعات على انه أدب فرنسي مع أن كُتابه عرب، فإنهم يلغون بذلك روح الهوية المتأصلة في لغة الإبداع بشكل عام، ويتناسون أن ارتباط أدباء المغرب العربي بالثقافة الفرنسية هو عنصر إثراء وتفاعل بين ثقافتين، وليس عنصر تطفّل أو تبعية. وكمثال على ذلك، شعرية السرد المبنية على لغة تصويرية حسّية، كما نلمس ذلك عند بعض الأقلام الوازنة في الأدب الفرنسي من أمثال أندري مالرو، مارسيل بروست، ميشيل كولو…، ولكن الأدباء المغاربيون عمّقوها عن طريق مزجها وإثرائها بالرؤية الشعرية ذات التراث العريق في الثقافة العربية.

وفي سياق هذا التميز المتشبع بالهوية الوطنية، فإن المحصلة أن الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية، في شقه الشعري على الخصوص، يمثل إبداعا متميزا مغايرا للأدب الفرنسي في أشكاله ومضامينه. وهو وإن استفاد من أجواء حرية النشر الفرنسية بشكل كامل، إلا إن جمالياته ظلت لصيقة بجماليات المتنبي، أحمد شوقي، بدر شاكر السياب…، بشكل قد يكون أشد قوة من الجماليات الفرنسية. أما المضامين، فهي نابعة من ضمير مواطنين عرب يحملون في كيانهم تركة ثقيلة من هموم التخلف والاستعمار.

ويمكن رصد هذا الواقع من خلال قرن ونصف من الإبداع المغاربي بالفرنسية، وأيضا من خلال مجموعة من النماذج الأدبية التي تعكس تموضع الأدب المغاربي بين فضاءين إبداعيين متباينين: عربي ينطلق من الموروث كقاعدة مرجعية في محاولة استكشافه وإعادة تركيبه، وفرنسي يميل إلى اقتحام العولمة الثقافية من خلال الكتابة المجازية والتجزيئية التي تميز النمط الغربي.

غير أنه ومع ذلك، يتوجب علينا الإقرار بأن الأدب المغاربي في شقه الفرنسي، يعاني من بعض الآفات على مستوى العطاء والتميز، أولها تقوقُعه في الإقليمية الضيقة التي لم تمكنه على الرغم من طابعه العريق ومن ثرائه وتنوعه، من الارتقاء إلى مقام الآداب العالمية. فلا جائزة غونكور للطاهر بن جلون، ولا المسار المتفرد لمحمد خير الدين، ولا الكتابات المتميزة لإدريس الشرايبي، أو ولوج آسية جبار رحاب الأكاديمية الفرنسية، كانت بقادرة على ترسيخ هذه الآداب بأسماء ونصوص جديدة، في كتالوغ الآداب العالمية. ويبقى تميز هؤلاء حدثا ثقافيا عرضيا وعابرا.

من المسئول عن هذا الوضع؟ أهي اللغة، الرقابة؟ أم هروب المبدع من الواقع وعدم قدرته على التقاط تحولاته وتمفصلاته؟ أم هي إمبراطورية الإبداع التي حولت ثقافة بأكملها من ثقافة توصيف إلى ثقافة حس.. فلم تنتج هذه الثقافة شبيها لبالزاك، بودلير، أو أبولينير وغيرهم، على الرغم من وجود نصوص روائية ودواوين شعرية، هي بمنأى عن الحميمية السائدة، ولها ما يلزم من المقومات الفنية والتخيُّلية تؤهلها لمواجهة العولمة الثقافية.. هذا الهمّ وهذا التوجه موجود لدى كتاب وشعراء من أمثال رشيد الميموني، كاتب ياسين، أحمد الصفريوي، محمد بنيس…، ممن دمغوا بقوة الأدب المغاربي، وأبدعوا في الحداثة الشعرية بلغتين: عربية تستند إلى ثقافة بصرية قوية يلتقط من خلالها الكاتب تمفصلات الواقع لا كما هو، بل كما ينبغي أن يكون، وفرنسية تروم تحرير مملكة الشعر من سلطة الدين واللون والجنس.

الآفة الثانية للأدب المغاربي “المُفرنَس” كما يحلو للبعض تسميته، تكمن في تنصل بعض الكتاب من الواقع أو محاولة تزويقه وفبكرته إرضاء لدور النشر أو لقراء متلهفين للإكزوتيك، حتى وإن اجتهد بعض كتاب اللغة الفرنسية وشعرائها في النهل من واقع وتاريخ مرجعياتهم العربية، سلبية كانت أم إيجابية، مما جعلهم ينجحون نسبيا في اختراق الحدود وفي التماهي مع إشكاليات وقضايا طرحتها الآداب الفرنسية.. نصوص عبد الكبير الخطيبي ومصطفى نيسابوري خير مثال على ذلك.

الآفة الثالثة وليست الأخيرة التي تعيق، برأيي، الإبداع المغربي بلغة موليير، كون شريحة واسعة من الأدباء والشعراء تشتغل بالأسف في صيغة المفرد من دون رابطة أو عصبة تجمع بينهم وتجعل من كل واحد من هؤلاء كثيرٌ متناسق، بمعنى غياب رابطة أو عصبة للأدباء المحليين والمغتربين، ولا أقصد اتحاد كتاب المغرب الذي خرج بالمرّة عن السكة الحاضنة للإبداع المغربي بالحروف والكلمات الفرنسية. مثل هذا الرأي القائل برابطة تُوحد بين أدباء الفرنسية بالداخل والخارج، يدحضه فريق آخر بالقول إن الاشتغال في صيغة المفرد، هو ما يميز الإبداع، فإذا فقد المبدع فرادته فإنه سيسقط في أحضان الجماعة، والكل يعرف ما لهذه من سلطة استبدادية قاهرة.

الأدب المغربي الفرنسي يؤرقه أيضا الواقع الإبداعي الراهن، المتميز بهيمنة السوق وتوحش العولمة.. واقع يفترس كل يوم الإبداع في كل صوره وأشكاله، ويقتضي من رجالات الأدب تصريف هذه الضرورة الملحة للحوار والتبادل في قالب إبداعي متماسك، كما يقتضي منهم دورا إعلاميا، أخلاقيا، إبداعيا، قادحا وفاضحا لقيم الاستهلاك والتبضيع.. قيم من صنع الميريكان (ما تسمع غير أوكي أوكي كمان باي باي.. الله يرحمك يا حسين السلاوي) الذين يريدون تشييئ وتبضيع الأرض ومن عليها.. دور الأدباء هو أيضا تصحيح الأفكار المبتسرة والمسبقة عن دول وشعوب بتاريخ متراكم وديناميات متباينة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى