في رسالة توفيق أحمد التوفيق
من قرأ رسالة الوزير الوصي على الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية السيد أحمد التوفيق، سيعي بأنه ليس مجرد نص للرد من رجل الدولة الوصي على تدبير الشأن الديني على رئيس حكومة سابق يخرج بطاقة الدين كالحكم الكروي كلما شاء لمآرب شتى يعلمها الجميع، بل إنها تكاد تكون استمرارا لنفس تقدمي لطالما دافعت كل القوى التقدمية الحية بالمغرب بشكل صريح عنه، في إطار الموقف الرافض لإقحام الدين في السياسة، ورفض كل أشكال التوظيف السياسوي المقيت للمشترك بين المغاربة، لأن العلاقة مع الخالق لا تحتاج للوسائط، وأن الأفراد أحرار في ممارسة شعائرهم الدينية في إطار الدولة المدنية، بدل تبني خطابات دينية ستؤدي بطريقة أو بأخرى لسيادة الكهنوت بدل سيادة الدولة في إطار معادلة الحقوق والواجبات.
ولأن نص التوفيق بليغ المعاني قوي الرسائل، وجب الوقوف عند أهم ما يمكن استخلاصه من أفكار طرحها ووجب تفكيكها وإعادة قراءتها قراءة متأنية، نظرا للتكوين الذي يقدمه نموذج التوفيق بين الثابت والمتغير في سياق مغربي متفرد.
وتفاعلا مع النقاشات المتصاعدة حول العلاقة بين الدين والسياسة، خاصة ما أدلى به الأمين العام لحزب العدالة والتنمية السابق، فقد جاءت هذه الرسالة التي يمكن اعتبارها بمثابة بيان واضح، يحدد كل معالم الرؤية المغربية لهذه العلاقة، مستندة إلى مرجعية إمارة المؤمنين كنظام سياسي وديني جامع. هذه الرسالة، بما تحمله بكل صراحة وحسم، لا تنحصر في كونها ردًّا على مواقف محددة، بل هي رؤية استشرافية تتوقع آثارًا بعيدة المدى على النظام السياسي والديني في المغرب كما يلي:
1 النظام المغربي: نموذج متفرد بين الثبات والديناميكية “إمارة المؤمنين…الثابت الجامع”.
إن “إمارة المؤمنين” ليست مجرد بناء رمزي وفقط، بل هي بنية مؤسسية تُحافظ على استمرارية الهوية الوطنية وتماسكها، مانعة أي استغلال سياسي للدين، وتبرز إمارة المؤمنين ذلك الثبات في قلب منظومة تتفاعل مع تحديات العصر، وهو ما يجعلها حاجزًا أمام الفوضى الناتجة عن تسييس الدين وسدا منيعا ضد من يحاول الخلط بينهما
2 السياسة كنسق ديناميكي:
في مقابل الثبات الذي تمثله إمارة المؤمنين، تظل السياسة دائما، ذلك المجال المفتوح للتفاعل والتجديد، مما يجعل من أي محاولة لإضفاء طابع ديني مطلق عليها، خروجًا عن النسق المغربي المتوازن. بهذا، فإن السياسة هي مظهر للمرونة والاجتهاد، في مقابل محاولة الإسلام السياسي المتمثل مغربيا في تجربة العدالة والتنمية تقديمها كنسق مقدس.
3 الحسم في الطرح وآثاره بعيدة المدى:
تعتبر الرسالة نفسها، بمثابة إعادة تعريف شاملة للعلاقة القائمة والممكنة بين الدين والسياسة، بكل الحسم الذي تضج به، وهي محاولة موفقة تدفع نحو ترسيخ وعي عام بأهمية الفصل الوظيفي بين الدين كمرجعية أخلاقية والسياسة كمجال تطبيقي. إذ من المفترض أن يؤدي هذا الطرح إلى إعادة صياغة الخطاب السياسي للحزب ذي المرجعية الدينية، والذي هو مدعو بدوره هاهنا، إلى مراجعة مرجعياته على ضوء الخطاب الرسمي الحازم.
ومن بين رسائل الرسالة نفسها، نجد أيضا، تعزيز الشرعية المؤسساتية إذ أنها تؤكد على أن الشرعية في المغرب لا تُبنى على الشعارات، بل على مؤسسات ضامنة للاستقرار، مثل إمارة المؤمنين.
وتعد هذه الصراحة مطلوبة من أجل تعزيز ثقة المواطنين في المؤسسات الرسمية، مما يُضعف لا محالة، كل الخطابات الشعبوية التي تستغل الدين لتبرير مصالحها، وستوجه النقاش السياسي نحو قضايا واقعية بفك أي ارتباط بين الدين والسياسة، ما سيوجه الأحزاب السياسية نحو التركيز على قضايا اجتماعية واقتصادية ملموسة، بدلًا من الصراعات المجانية، وسيعيد هذا التحول توجيه النقاش العام نحو الأولويات الوطنية، بعيدًا عن المزايدات تحت يافطة استغلال الدين.
4 الوظائف السيميائية المستخلصة من الرسالة:
الوظيفة الحجاجية: تفكيك الخطاب الشعبوي:
إن الباحث في علم العلامات سيخلص إلى أن الرسالة تعتمد على المقارنة بين النماذج الدولية والنموذج المغربي، لإبراز كل تناقضات الإسلام السياسي، وأن هذا التفكيك سيؤدي بدوره، إلى تراجع الخطاب الشعبوي الذي يُحاول الجمع بين متناقضات لا تتماشى مع الواقع المغربي.
الوظيفة الرمزية: ترسيخ الهوية المغربية.
إن الرسالة تُعيد تعريف مفاهيم مثل “العلمانية” و”الديمقراطية” لتتناسب مع السياق المحلي، مما يُبرز خصوصية الهوية المغربية، وأن هذا التوجه سيُقوي موقع المغرب في النقاشات الإقليمية والدولية حول العلاقة بين الدين والسياسة في أفق كوني يستحضر جدلية التأثير والتأثر التي لا نفلت من سطوتها، والتي ليس من المعقول أن نفوت فرصة إيقاعها تحت سطوة تأثيرنا الأخلاقي بالدرجة الأولى.
الوظيفة الاستشرافية: بناء نموذج متجدد:
ويظهر ذلك، من خلال تقديم رسالة التوفيق لنظام يجمع بين الثبات والديناميكية، إذ تُبرز إمكانية تطوير نموذج مغربي فريد للتعايش بين القيم الدينية والسياسية. وأن الوضوح في رسالة التوفيق يُقلل من مساحة التأويل والمزايدات، مما يدفع فاعلي الإسلام السياسي إلى تبني مواقف واقعية أكثر ومراجعة طرحهم السياسي/ الديني بشكل أكبر. لهذا فإن التوفيق قد قدم أفقا جديدا للنقاش الوطني وأن رسالته نفسها، ليست مجرد ردّ فكري أو موقف سياسي من وزير أو مسؤول على قطاع حساس وسيادي، بل هي دعوة بالأساس لإعادة النظر في الأسس التي يقوم عليها الإسلام السياسي على الأقل مغربيا. وهي إعادة النظر التي من المفترض أن تنطلق من الشرط المغربي كنموذج استثنائي قادر على تحقيق التوازن بين ثبات الدين وديناميكية السياسة. وأن هذا الحسم لا يضع فقط حدًّا للنقاشات العبثية، بل يفتح أفقًا جديدًا للنقاش الوطني، حيث يُصبح التركيز على بناء مستقبل قائم على التعددية والاستقرار بدلًا من الغرق في صراعات عقيمة.
إن التوفيق بحق، ناب عنا جميعا، بل حتى عن الصامتين والشامتين، وكانت لديه شجاعة الإعلان عن الإفلاس، إفلاس مشروخة الدين والسياسة بكل جرأة ومسؤولية معهودة في رجال الدولة والوطن.