خصص عبد الحميد جماهري، رئيس تحرير ومدير نشر يومية الاتحاد الاشتراكي، عموده “كسر الخاطر”، في عدد الجريدة الصادر يوم غد الجمعة فاتح شهر دجنبر 2023، للحديث عن الرسالة التي وجهها الملك محمد السادس، إلى رئيس اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف، بمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
واختار جماهري لعموده “كسر الخاطر”، المتعلق بهذا الموضوع، عنوان “المغرب الفلسطيني: حين تلتقي المصداقية الاستراتيجية بالاحتضان الشعبي”، وجاء فيه ما يلي:
كانت المناسبة السنوية للتضامن مع الشعب الفلسطيني، موعدا متجددا لكي يرسل ملك البلاد رسالة قوية إلى رئيس اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف، السيد شيخ نيانغ..الرسالة التزام ملكي سنوي، بيد أنه اكتسى هذه السنة مضامين وطابعا خاصا.
توجهت الرسالة مباشرة إلى الضمير العالمي، وإلى مجلس الأمن تطالبه بالحد الأدنى من المصداقية، من خلال الوقوف في وجه ما يجري ثم تحقيق وحدة الأخلاق والقيم إزاء ما وقع من إبادة، ومن الحرب ومن جعلها تمرينا وحشيا بوسائل جديدة! هي مساءلة استنكارية، من وجود انقسام في مسألة أخلاقية إنسانية ومبدئية تتعلق برفض التقتيل والحرب.
وبعده مباشرة وضعت الرسالة جدول أعمال أو أجندة استعجالية للتعامل مع الحرب. وفي ذلك ما هو في عداد موجبات الموقف السليم الذي يدخل في سياق إعداد شروط التعامل الاستراتيجي الواجب في قضية فلسطين.
نحن نعيش هدنة، تتجدد باتفاقات لحظية ومناسباتية، ويجب أن تكون هدنة بقرار دولي، يعطي فرصة لما بعده.
وأن تظل الهدنة رهينة التفاوضات في آخر لحظة أو التفاوض تحت التهديد بالحرب، فإنها هدنة هشة ومستباحة من الطرف الأقوى في أي لحظة. وعليه فإن قرارا أمميا متوافقا عليه، تسانده القوى الخمس وترعاه، يبقى المدخل الأجود ولعله الأوحد في تفكير ما بعد العدوان.
النقطة الثالثة تتجلى في ما بعد العدوان تحديدا، وهي مرتبطة بمعنى المفاوضات، وفي أي أفق ممكن، وفي هذا الباب ذكرت الرسالة الملكية بثبات أخلاقي وسياسي، وهو أن دفع الخصم إلى اليأس من الأوضاع، يحرره من التفكير في الرد المناسب، وبمعنى آخر فإن إسرائيل عندما قتلت الأفق السياسي للحل، جعلت كل التطورات ممكنة. ولا يمكن أن نتهم المقاومة مهما يكون الاختلاف معها.
ويتضح من رسالة الملك انحياز واضح إلى المقاومة:
فالرسالة تقول بما لا يدع مجالا للشك: «إن التصعيد الأخير هو نتيجة حتمية لانسداد الأفق السياسي للقضية الفلسطينية..».
وفي تأسيس هذا الموقف، كان جلالته أكثر وضوحا وهو يعدد أسباب الأفق المسدود:
= التصعيد الأخير نتاج لتنامي الممارسات الإسرائيلية المتطرفة والممنهجة،
= التصعيد نتيجة للإجراءات الأحادية والاستفزازات المتكررة في القدس، التي تقوض جهود التهدئة، وتنسف المبادرات الدولية الرامية لوقف مظاهر التوتر والاحتقان ودوامة العنف المميتة.
وتستفيض الرسالة الملكية، كي لا يبقى هناك غموض أو تأويل في توصيف الحالة الحالية، بتحميل إسرائيل كل المسؤولية، وذلك من خلال التنصيص على أن:
= الأعمال العسكرية الإسرائيلية الانتقامية في قطاع غزة أبانت عن انتهاكات جسيمة.
= رفض وإدانة «كل التجاوزات وسياسة العقاب الجماعي والتهجير القسري ومحاولة فرض واقع جديد».
كان الملك واضحا أكثر من الشمس في تسمية وتحديد المعتدي، وفي تحميله المسؤولية وتبرئة الفلسطينيين، كل الفلسطينيين، من أية مسؤولية في ما وقع، كما أنه كان واضحا في رفض مستتبعات هذا الإجرام، وما قد يشيَّد عليه من مواقف وسياسات واستراتيجيات. ومنها التهجير الجماعي للشعب الفلسطيني ومحاولة تجزيء وحدة الشعب والأرض…
وكانت مضامين مشابهة قد تضمنتها رسالة الملك إلى القمة العربية الإسلامية المشتركة في الرياض، مع التنصيص على مخرجات القمم السابقة من حيث وحدة تمثيلية الشعب الفلسطيني عبر منظمة التحرير الفلسطينية.
وهو موقف لا يترك أي غموض بخصوص هذه العملية أو محاولة تقزيمها أو تجاوزها عبر ممثليات مختلفة، ولو من داخل السجن الفلسطيني، وأن المطروح هو جمع كل تعبيرات وفصائل المقاومة في كيان واحد هو المنظمة، حتى لا تكون الرهانات الفلسطينية في التحرير عرضة لحسابات الدول والعواصم، وموقع خلاف..
يتضح من خلال المواقف المعبر عنها بوضوح وبدون محاباة ولا تغيرات مزاجية، أنه إذا كانت الأوضاع الحالية تبعث على رفع درجات الإدانة والرفض والتضامن، فإن مصداقية الدولة الاستراتيجية حافظت على طبيعتها ودرجة وضوحها من حيث مدخل الحل ـ الأفق السياسي للسلام ومخرجاته أي دولة فلسطينية حرة وعاصمتها القدس الشرقية..
والوضع ليس سهلا ولا الحل «معتدلا»، بل إن معطيات المنطقة اليوم تجعل هذا الأفق، محاطا بالكثير من الاستعصاء .. والحل هو بالفعل مؤتمر دولي تتحمل فيه المجموعة الدولية مسؤولياتها كلها كما دعا إلى ذلك الاتحاد الاشتراكي على لسان كاتبه الأول في تظاهرة الرباط أول أمس…
في مقابل الوضوح والتزام الدولة ورئيسها باستراتيجية ذات مصداقية، يحافظ عليها وسط الإعصار والأنواء، هناك الاحتضان الشعبي، الذي يجاور الالتزام الملكي، حيث كانت مناسبة اليوم العالمي، يوم الرسالة الملكية، موعدا مع سفارة فلسطين وأهل فلسطين في المغرب، والجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفسلطيني، في تظاهرة الرباط بالمكتبة الوطنية..كما سبقتها المسيرة الكبرى في الرباط لإدانة الهمجية الإسرائيلية..
مسيرة ومسيرات عديدة، وتجمعات في المسارح والقاعات لم يتعد سقفها في الموقف من الهمجية الإسرائيلية سقف الرسالة الملكية: أي الوقوف لإعلان الرفض: انتهاكات جسيمة، العقاب الجماعي، التهجير القسري وتنامي الممارسات الإسرائيلية المتطرفة والممنهجة.. وإن كانت تعبيرات ذلك تختلف بين الوجدان واللغة القانونية الدولية.
وتلاقى الاحتضان الشعبي، بكل مستوياته المؤسساتية والعفوية، مع الالتزام الملكي، بحيث يسير الشعب وملكه في مسيرة واحدة ضد العدوان، ويترجم موقف الملك وجدان شعبه وتطلعاته في الموقف مما يجري..