كانت مضامين الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش في ذكراه الـ 18، والذي ألقاه الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى الثامنة عشر لإعتلاءه العرش، مميزة من حيث الانتقاد المباشر والصريح لعدد من ممارسات السياسيين المغاربة والإدارات العمومية، وتشديد الملك على ضرورة تنزيل مقتضيات الدستور خاصة فيما يتعلق بالفقرة الثانية من الفصل الأول منه، والتي تنص على “ربط المسؤولية بالمحاسبة”.
مضامين كان من المفترض أن تكون نقطة فصل وتحول، فيما يخص تعامل موظفي الإدارات العمومية والسياسيين بدرجة أولى، لكن يبدو أن “هؤلاء”، لم يستوعبوا مضمونها كما يجب، مفضلين تجاهل رسالة الخطاب المباشرة، التي فهمها الجميع، غير “هؤلاء”، بحسب ما أظهروه من خلال تصرفاتهم التي تلت الخطاب مباشرة.
هؤلاء السياسيون والمسؤولون، والذين كان من المتوقع أن “يهزهم” خطاب العرش ويوقظ فيهم روح الوطنية والغيرة على مغرب من المفترض أن يخدموه، بالإضافة لتوجيه اللوم للنفس على ما فات وطلب الصفح، والاستعداد لتعويض ما ضيعوه، أبان عدد منهم عما يشبه “استخفافا” بكل ماجاء به الخطاب الملكي.
الأمين العام لحزب الاستقلال حميد شباط، والذي يعاني اليوم من تخلي أغلب “صقور” الحزب عنه في المعركة الداخلية نحو الأمانة العامة، اختار التحليق بطائرة “كلاس” لإحدى الدول الأوربية بحسب ما كشفته مصادر قريبة منه لـ “برلمان.كوم“، بالتزامن مع إلقاء الملك لخطابه “التاريخي”، كرد فعل واجب بخلاف ما اعتاد عليه شباط قديما، من متابعة الخطابات الملكية، والخروج للتعليق عليها في قنوات الإعلام الوطني، سواء بمنزله أو من مقر الحزب بالرباط، رفقة أعضاء حزبه، فماذا تغير اليوم؟ الله أعلم.
شباط الذي سيعيش اليوم بعد عودته للمغرب كمسؤول سياسي “لا بيعة في رقبته لولي الأمر” لاستثنائه من الدعوة إلى حفل الولاء بسبب سفره المناقض للأدب الوطني، تبعه قيادي آخر بحزب الحركة الشعبية، له من تاريخ ادعاء الوطنية وخدمة الملك والشعب “ظاهريا”، والاستهانة بمصالح الوطن “باطنيا”، وهو المقرون اسمه بأكبر “كراطة” عرفها المغرب، بتخلفه عن حضور حفل الولاء الذي أقيم في القصر الملكي بمدينة تطوان يوم الاثنين، بعد قضاءه ليلة سكر طويلة بمدينة طنجة.
ينضاف إلى هؤلاء عبد العالي حامي الدين القيادي بحزب العدالة والتنمية، الذي اختار بعيد خطاب العرش بأربعة أيام، جهاز هاتفه البرلمان، وأريكته المريحة في منزله، ليطلق سهام النقد للخطاب الملكي الذي كشف عورات عمل السياسيين، ويتهم في تدوينة فيسبوكية، النظام السياسي بتسببه فيما أسماها “أزمة الأحزاب السياسية”.
حامي الدين الذي فاقت جرأة تدوينته كل الحدود في معاكسة تامة للإشادات التي رافقت خطاب الملك، والتي مازالت مستمرة في انتظار الإطاحة برؤوس الفساد، وصف الدولة المغربية بأنها “بعد الاستقلال كانت دولة تقليدية، واستمرت بنيتها تقليدية، رغم استخدامها للعديد من المفاهيم التي تنتمي إلى الدولة الحديثة”، محددا بوصفه أن “هذه المفارقة هي التي تدفع السلطة القائمة لكي تحافظ على استمراريتها بعمقها التقليدي ومظهرها الحداثي إلى التدخل في الأحزاب السياسية وتوجيه تحالفاتها ورسم مواقفها، وإفراغها من عمقها التمثيلي وامتدادها الشعبي..”.
ويبدو أن ما دفع حامي الدين لقول كل هذا الكلام الثقيل، الذي يأتي في غمرة التفاعل الإيجابي العام مع مضامين خطاب العرش، الذي يرتقب أن يطيح برؤوس عمرت كثيرا بمن فيها منتمون للبيجيدي نفسه، غضبه من ضياع مصالح سياسية كان يتوقعها لنفسه، على غرار إخوانه في الحزب، قبل بعد نكسة الانتخابات والحكومة الأخيرة.
ومازال فريق المتخلفين عن الاهتمام بمضمون خطاب العرش، يزدادا في كل لحظة، لم يكن آخرهم لحد كتابة هذه الأسطر، غير وزير المالية محمد بوسعيد، والذي تجرأ على “تهديد” النائب عبد العزيز اللبار عن حزب البام، خلال اجتماع للجنة المالية بمجلس النواب، بعبارة “إلى مسكتيش غادي نخرج عليك”، بحسب ما فجره علانية البرلماني عبد اللطيف وهبي، خلال الجلسة الأسبوعية المخصصة للأسئلة الشفهية بمجلس النواب الثلاثاء، وهو ما خلق موجة احتجاج من طرف أعضاء الفرق البرلمانية، في ضرب صارخ لكل توجيهات الملك التي تضمنها خطابه السبت الماضي.
ولم تكن تصرفات هؤلاء السياسيين، وحدها التي عكرت صفو الأمل الذي بعثه الملك بخطاب السبت الماضي، بل انضاف له ما تناقله العديدون خلال هذين اليومين، والمتعلق بـ “فضيحة سطوندار وزارة الصحة”، والتي صدمت الجميع، بعدما نشرت إحدى الإذاعات الخاصة تسجيلا لإتصال هاتفي مع مركز اتصال وزارة الصحة، والذين اتصلوا به بغرض الإستفسار، ليواجه طلب تقدموا به، لربطهم بأحد المسؤولين، بإغلاق الموظف للخط في وجههم، في تكريس صارخ للممارسات السيئة التي نهى الملك عنها في خطابه بخصوص الإدارة العمومية.
تغيبات البرلمانيين، عن أولى الجلسات البرلمانية التي تلت مباشرة خطاب الملك، كانت بدورها، سؤالا محيرا لعدد من المواطنين، حيث فضح مجلس النواب، في جلسة الثلاثاء، عدم اعتبار البرلمانيين لكل ما يصدر عن الملك من تحذيرات، بحيث فاق عدد النواب البرلمانيين المتغيبين عن الجلسة العامة للأسئلة الشفوية، 170 برلمانيا من أصل 395 نائبا المشكلين للغرفة الأولى.
نماذج قليلة إذن أفرزتها أولى الأيام التي تلت خطاب العرش وما تضمنه من إشارات قوية وجدية، وما خفي وسيظهر، سيكون أعظم بلاشك، خصوصا مع اعتياد سياسيين كثر في عدد من المرات السابقة، على التعامل مع تحذيرات الملك في خطابه بمنطق “سبعيام دالباكور” التي يكملونها صامتين أو مشيدين بكلام الملك، قبل أن يعودوا لعاداتهم القديمة “بوجه صلب”، وكأن شيئا لم يحدث.
وكان الملك محمد السادس قد ألقى بمناسبة عيد العرش، خطابا وصف بـ”شديد اللهجة والمباشر”، شدد فيه على ضرورة تنزيل الدستور بشكل كامل وسليم، مؤكدا أن الأمر يتعلق بمسؤولية جماعية تهم كل الفاعلين، حكومة، برلمانا، وأحزابا، وكافة المؤسسات، كل في مجال اختصاصه، موجها رسائل مباشر لكافة السياسيين والإدارات العمومية, ومشددا على أهمية التطبيق الصارم لمقتضيات الفقرة الثانية، من الفصل الأول من الدستور التي تنص على “ربط المسؤولية بالمحاسبة”.
فمتى يا ترى سيحترم السياسيون المغاربة الملك محمد السادس، ولو على الأقل في خطاباته التي تعكس هموم واحتياجات المواطنين؟ وهل فعلا يخاف المسؤولون المتهاونون في أداء مهامهم من مبدأ المحاسبة، أم يعتبرونه مجرد حبر على ورق؟ وكأن شعارهم الضمني والخالد يقول “المسؤولية بدون محاسبة”.