حينما يجتمع الرسامون العرب ليوثّقوا خرائط الجسد من زوايا المعاناة والتوجع والتمرد
يلتقي اليوم الاثنين 26 فبراير وإلى غاية منتصف مارس القادم، عشرة رسامين عرب ممن بصموا الحياة الفنية العربية من بداية القرن العشرين إلى اليوم، في معرض جماعي بالمركز الفرنسي للثقافات المتوسطية بباريس، حول “الجسد العاري”، ليس بغاية الجرأة الزائدة والتمرد، ولكن بنية التخلص من الأفكار الجاهزة التي تُطرح بشأن الجسد المكشوف.
ويحاول المعرض توثيق نظرة الرسامين والنحاتين العرب للجسد العاري في كل حالاته (معاناة، تمرد، شبق، عشق، إغراء…)، والأفكار التي يختزنها الموروث الاجتماعي العربي بهذا الشأن. ويرصد من خلال ما يقدمه من أعمال متعددة ومتشابكة، ثراء الإبداعات التشكيلية والبصرية العربية في فوتوغرافيا الجسد، سواء من حيث تقليد النماذج الأوروبية في فترة هجرة الفنانين العرب إلى الديار الأوربية، أو من زاوية تطوير البعدين الاجتماعي والسياسي في العقود الأخيرة تماشيا مع ما اصطلح على تسميته بالعولمة الفنية في ظل ثورة الاتصالات.
فمن الأديب الرسام جبران خليل جبران إلى الفنان المغربي الراحل فريد بلكاهية، مرورا بكبار الرسامين العرب من أمثال العراقي عادل عابدين، والسورية ليلى مرايويلد، والفرنسية من أصول مغربية سمية المختوم والمصري يوسف نبيل، واللبناني عمر أنسي وغيرهم، تتسع وتتنوع الابتكارات لدى الفنانين العرب حول مسألة الجسد الذي وصفه الفيلسوف وشيخ المتصوفين، محيي الدين بن عربي، ب”قُبّة الروح” من فرط التفاعل القوي القائم بين الجسد والروح، وبفعل الدور الرافد للجسد ومحوريته في علاقته بالعقل في سياق ما يصطلح عليه ب”العقل المُجسُدن” (La pensée corporelle).
من هؤلاء الرسامين من اتخذ من الجسد وسيلة لاستحضار الشبق والعشق والإغراء، وحاول تصوير معاناة المرأة وإظهارها كفريسة مألوفة لفحولة الرجال وأنانيتهم، على غرار السورية ليلى مرايويلد، ومنهم من تجنبوا المسار الزمني ليخلطوا بين المخيلة الأكاديمية والمخيلة الطلائعية الحديثة موثقين بذلك لحالات المعاناة والألم التي يعيشها الجسد. ومنهم من قدم المرأة في أوج التفاخر بمفاتنها الجسدية وسط لا مبالاة الرجال، كما فعل عادل عابدين، جامعا بين السياسة والجسد والفن. وفريق رابع مزج بين الأنثوي والذكري على اعتبار أن كل إنسان يحمل في داخله مزيجا من الذكورة والأنوثة بنسب متفاوتة.
أما الفنان المغربي الراحل فريد بلكاهية، فيحاول الخروج عن الدروب المطروقة Les sentiers battus ويختار، في سياق ميولاته الرمزية، تغطية لوحاته الخشبية المقطعة بالنحاس المطروق والمطوّع، قبل أن يرسم أنماطا توحيدية أو تعددية، من خلال العودة إلى نقوشات بارزة تشكل الفضاء الحيوي لجسد المرأة مع لمسات جريئة على شكل رموز عارية متحركة لصيقة بمقاييس الجمال الأنثوي السائد في موطن نشأته المغرب.
وتجتهد المصممة والرسامة سمية المختوم وهي مغربية فرنسية من أصول تطوانية، في تفكيك ملامح الجسد وإعادة تركيبه بأقمشة متفاوتة الشفافية بما يعطي الانطباع بتأثرها بالمدارس الفنية السريالية، فيما المصري يوسف نبيل يتعامل مع الجسد ضمن محاكاة الألم حيث الجروح والكدمات لها موقع كبير في لوحاته الجسدية.
أما الفنان التونسي عادل السّنبوطي فيتناول جسد المرأة كرمز للخصوبة وليس ككائن جمالي للإثارة والإغراء. وهو بذلك ينقلب على معايير المستشرقين الذين طالما سوّقوا المرأة العربية كمثال للمرأة النمطية بوقفة بدوية فلكلورية وأزياء محلية.
ومن أهم ما يُلفت النظر في المعرض هو الاهتمام بتعابير الجسد الهادئة والمتحركة ضمن ما يسميه الرسام خليل الصليبي ب”فعل الحركة وحركة الفعل” حيث اختار أن يكون فضاء لوحاته منشطرا إلى وحدات وجزيئات يعيد تركيبها لضبط حركات الجسد بنعومته وتعبيريته وألوانه الأنثوية.
ويستحضر المعرض ما صنعته الأجيال الأولى في تعاملها مع الجسد، على غرار اللبنانيين جبران خليل جبران، وجورج داوود قرم وغيرهما ممن غادروا بلدانهم للعيش في دنيا الاغتراب وتأثروا بالحضارات الأخرى والوسائل الفنية الأجنبية، دون أن يؤثر ذلك على نظرتهم وجرأة مواقفهم.
وإلى وقت غير بعيد، كان رسم الجسد وتصويره في الفنون العربية، مادة شبه محظورة في ظل سلطة الطابوهات والتفسير الخاطئ لبعض المؤسسات التي تقول عن نفسها أخلاقية، لمفهوم التصوير والتجسيد. غير أنه مع بروز جيل جديد من الرسامين، عاد الجسد إلى الواجهة ليحتل الصدارة الإبداعية في الرسم والنحت العربي، وتزايد الاهتمام به على نحو واسع مع ظهور التكنولوجيات الحديثة والبرامج الحاسوبية في الإبداع التشكيلي.
وبالرغم من الاختلاف الحاصل بين الرسامين والنحاتين العرب في الطوابع والغايات، فإن كل واحد يحاول بأسلوبه الخاص تجاوز الممنوعات اللصيقة بتصوير الجسد من خلال تقديمه من جهة، ككائن وجداني يزخر بالخصوبة والعطاء، ومن جهة أخرى كمادة لاستحضار حالات الألم والمعاناة والإثارة في آن واحد.
ومن هنا يروم معرض “الجسد العاري” طرح موضوع الجسد من زوايا جمالية جريئة ومحتشمة، مع فتح نوافذ المعاناة التي تتسلل للجسد في ظل المعركة الدائمة التي تتقاذفه بين الألم والأمل. واختار لهذا الغرض أعمالا أكثر شمولية وبعيدة جدا عن نظرة وتصورات الغرب المغلوطة عن المجتمعات العربية والشرقية بشكل عام.
وقد أصدر المعرض بالمناسبة كاتالوغا معززا ببيانات ورسوم لتوسيع مجال المقاربة التشكيلية حتى تشمل جوانب أخرى قد تساعد على فهم السياق العام لموضوع الجسد في الفنون التشكيلية والنحتية العربية.