الأخبارركن الميداوي

جريدة “لوموند” الفرنسية تستغيث والمواقع الإعلامية تغتال الصحف الورقية العريقة

الخط :
إستمع للمقال

تشهد جريدة “لوموند” نقطة تحول تاريخية في مسارها الإعلامي بعد أن أدت الخسائر المتراكمة التي تكبدتها إلى الاستنجاد بشريك جديد سيحصل وحده أو مع شركاء آخرين على حصة الأغلبية في واحدة من أعرق المجموعات الإعلامية بفرنسا. وتبحث “لوموند” منذ أسابيع عن مستثمر أو مستثمرين ينقذونها من الإفلاس بعد أن رفضت مؤسسة “لاغردير” التي تملك 17% من مجموعة “لوموند” الزيادة في حصتها. وتتراوح المبالغ المعروضة ما بين 90 إلى 130 مليون أورو (حوالي 100 إلى 140 مليار سنتيم).

ويخشى المختصون في الإعلام المكتوب من أن يؤدي التراجع الكبير في المبيعات إلى لجوء الجريدة للدوائر الاقتصادية النافذة كمتنفس مالي ضروري ولو على حساب كبح حريات الصحافيين وخدمة أغراض غير ذات صلة بالوظيفة الإعلامية. لاسيما بعد الأنباء القائلة برغبة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يقيم شبكة علاقات قوية ومتشعبة مع كبار مديري ومالكي وسائل الإعلام، في معرفة هوية وطبيعة الشركاء الجدد.

“لا مانع من أن يكون لرئيس الدولة انشغال بشأن الخط التحريري لجريدة “لوموند”، لأن مثل هذا الانشغال شكل القاعدة الأساسية منذ إنشائها سنة 1944، غير أنه لا يجوز له تحت أية ذريعة كانتـ، التدخل في الخطوط التحريرية العامة للجريدة أو النيل من استقلاليتها الفكرية والسياسية. كما ليس من اختصاصه ولا من صلاحياته التدخل في مؤسسة فرنسية خاصة. وحتى وإن سلّمنا بأن لجريدة “لوموند” قيمة رمزية قوية، ونفوذ إعلامي كبير، فإن التدخل في خطوطها التحريرية أمر غير مقبول”، يقول مدير “لوموند”، جيروم فينوغليو، الذي اعترف أنه تلقى مكالمات هاتفية عديدة من الرئيس ماكرون قبل أن يستقبله بقصر الإليزيه.

كلام مدير الجريدة لا يبدد المخاوف من أن تقع تدريجيا، في حال استمر التراجع في عمليات النشر، تحت سيطرة عدد من الأباطرة وكبار رجال الصناعة ممن يقيمون في ما بينهم أشكالا مختلفة من التحالفات قد تشكل خطرا على التعددية الإعلامية. والمعروف أن الرئيس ماكرون يقيم صداقات مشبوهة مع كبار مديري ومالكي وسائل الإعلام الفرنسية، بالإضافة إلى صداقات أخرى قوية تربطه بمسئولي قنوات ورؤساء تحرير يعملون في القطاع الحكومي.

والواقع أن الصحف الفرنسية، شأنها شأن نظيراتها في كل أنحاء العالم، تكافح اليوم للتكيف مع توزيع متراجع، وعائدات إعلانات متقلصة، وتكاليف متصاعدة، ومنافسة قوية من الإنترنت والصحف المجانية، وهي منافسة قد تعصف بمستقبل الصحافة المرجعية إلى حد أن الرئيس ماكرون حذر من “موت” جرائد فرنسا بسبب المواقع الإعلامية والصحف المجانية التي باتت تحتل المراتب الأولى من حيث عدد القراء، متقدمة بكثير على صحف عريقة مثل “لومند” و”لوباريزيان” و”لوفيغارو” وغيرها.

ولا بأس هنا من شيء من التاريخ لنفهم أكثر كيف انتصبت الصحف المجانية في قمة المشهد الإعلامي الفرنسي، واجتذبت نسبة كبيرة من المعلنين الذين لا يميزون بين القارئ الذي يشتري الصحيفة عن ذاك الذي لا يدفع ثمنها. ففي 18 فبراير 2002 تأبط الفرنسيون أول جريدة مجانية، /ميترو/ يتصفحونها دون مقابل.. مواضيع خفيفة وأخبار وطرائف مرفقة بإعلانات بسيطة لكنها أكثرا قربا من اهتماماتهم. إعلان عن أثاث منزل، أسفار مغرية للمغرب، وصفات غذائية جاهزة، وبين هذا وذاك إعلانات تجارية لا تخلو طبعا من استغلال جسد المرأة حتى لو كانت السلعة عن ماركة سيارات.

وقد وضعها الكثير من الإعلاميين آنذاك، في خانة الصحافة الهاوية التي لن تعمر طويلا، كما حدث لما أطلق عليه بصحافة الرصيف التي حققت انتشارا واسعا في السبعينات، وسرعان ما تراجعت لتندثر بعد عقد من الزمن. ويكذبهم اليوم ما يشهده الفضاء الإعلامي الفرنسي من انقلاب حقيقي مع تنامي توزيع الصحافة المجانية، وتحوُّل صحف يومية كبيرة إلى إصدار مثل هذا النوع من الصحف تربط القارئ بالصحيفة الأم، وتثير رغبته في متابعة ما بدأ قراءته في الصحيفة المجانية. وبينما كانت في بداية نشأتها تقتصر على أخبار قصيرة أغلبها من النوع الطريف، مرفقة بنشرات إعلانية وخدمات تسويقية متنوعة، انتصبت اليوم كصحف عامة، بإدارة تحرير وصفحات في مختلف الأجناس المهنية، وتبويبات سياسية واقتصادية ومقالات تحليلية على قدر كبير من الاحترافية.

وإلى جانب الصحافة المجانية شكلت المواقع الإعلامية (الأنترنيت) هي الأخرى عنصر مضايقة حقيقية للصحف التقليدية، حيث تؤكد الأرقام أن عدد هذه المواقع يتجاوز حالياً المئة مليون في العالم كما أن هناك ما يزيد عن مليار و800 مليون شخص يستخدمها، وبدا التعاطي معها أمرا مألوفا بعد أن باتت معظم صحف العالم بل جميعها تملك مواقع نشر على الشبكة.

ولتمكينها من مواجهة المنافسة القوية للصحافة المجانية والأنترنيت، قررت الحكومة الفرنسية تخصيص 600 مليون أورو للصحافة المكتوبة كدعم مالي يمتد على ثلاث سنوات بدءا من 2022، وينضاف إلى الدعم الأصلي المحدد في مبلغ 1.5 مليار يورو، معظمه يأتي عن طريق الاشتراكات والبريد المدعوم وفي شكل تخفيضات ضريبية. وتتحمل الدولة بموجب هذا القرار، قسطا من تكاليف الطباعة والتوزيع لتمكين الصحف من مقاومة تراجع المبيعات في نقط البيع البالغ عددها 120 ألف ما بين أكشاك ومكتبات ومحلات بيع مختلفة.

ويرى المختصون في عمليات الدعم بمختلف أشكالها ضرورة حيوية لضمان التعددية الإعلامية وصون الديمقراطية التي لا يمكنها أن تؤدي وظيفتها بصحافة تقف بشكل دائم على شفا هاوية اقتصادية. ولا يمكن للصحافة أن تقوم برسالتها التنويرية إذا لم تكن في وضع مادي مريح يجنبها الاستنجاد ببعض الدوائر للتنفيس ماليا عن أزمتها. تلك الصحافة التي قال عنها فيديل كاسترو: “لا أخاف بوابة جهنم إذا فتحت بوجهي، ولكني أرتعش من قلم محرر صحيفة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى