أعلن الصحافي توفيق بوعشرين، في تدوينة نشرها على صفحته الرسمية على “فيسبوك” يوم الخميس 12 شتنبر الجاري، عن مراجعة موقفه المعارض لمشروع القطار الفائق السرعة “TGV” الذي دشن الملك محمد السادس أول رحلة له في 15 نونبر 2018، مؤكدا أنه “ليس عيبا أن يراجع المرء موقفه، المهم أن تبقى نيته سليمة ومواقفه منسجمة مع قناعاته”.
وعبّر بوعشرين عن مراجعته قائلا: “كنت من القلة التي عارضت مشروعه في البداية ليس خصاما مع السرعة الفائقة ولا مع “ONCF” بل لأني لم أعثر في بداية الشروع على أي دراسة جدوى تبرر الكلفة الكبيرة التي ستصرف عليه، في الوقت الذي تعاني فيه قرى ومدن صغيرة من عزلة قاتلة…لكن بعد أن انطلق المشروع، وعرف نجاحا كبيرا، وقلص زمن الرحلة بين البيضاء وطنجة لساعات وبعد أن جربْتُ السفر على متنه اليوم من الرباط إلى طنجة في ساعة و 20 دقيقة مع حسن الاستقبال ونظافة المركبات والوقت المضبوط، وبعد أن صار البراق يطير بسمعة البنيات التحتية المغربية عاليا… فأنا أسحب اعتراضي وأراجع موقفي الأول لصالح الفكرة والمشروع والمغامرة”.
بصراحة، هذا موقف يُحسب لتوفيق بوعشرين، ليس لأنه موقف إيجابي في حد ذاته، وإنما لأنه نتاج لممارسة فُضلى… ألا وهي “النقد الذاتي”، ترفض بعض الأطراف المعلومة والمعروفة بمواقفها العدمية، والعدوانية اتجاه البلد، (ترفض) أن تقوم به، وعلى رأسها الجهات نفسها التي كانت تتاجر بملف بوعشرين وملفات أخرى…ترفض القيام بنقد ذاتي حتى وإن علمت أنها على باطل… وهي كذلك حتما، حيث أن مواقفها وأطروحاتها لم تتغير منذ عقود، في الوقت الذي تغير الشيء الكثير في المغرب وفي الوقت الذي تقوم فيه الدولة، وباستمرار، بمراجعات لسياساتها دون أن تجد أي حرج في ذلك.
تلك الأطراف التي ترى نفسها على حق دائما وأبدا وأن كل ما يصدر عنها هو عين الصواب وما غير ذلك هو باطل وأنه إما أن تكون معها وإما فأنت ضدها… إما أن تغرد داخل سربها وإما فأنت صوت نشاز يجب إخراسك إلى الأبد… تلك الأطراف التي لا تريد أن ترى المغرب إلا في صورة سوداء قاتمة، ليس لأنها عدميةبطبعها أو لأن مغرب اليوم كذلك، وإنما لأن سبب وجودها واستمرارها ورأس مالها الوحيد، كل هذا، قائم على اعتمادهالخطاب البؤس. ومهمتها الأساسية، بل الوحيدة، هي صناعة السُّخط… ولا شيء غير السُّخط… لدرجة السُّخط حتى إذا تحققت أشياء كانوا يطالبون بها أو يزعمون أنهم يرغبون في أن تتحقق.
الجميل والمؤسف في الآن نفسه في موقف بوعشرين الأخير، هو أنه بقدر ما يؤسس لثقافة الاعتراف والمراجعة والنقذ الذاتي، فقد فضح أكثر من أي وقت مضى، الوجه الحقيقي لمناصريه ومناصري غيره، الذين لا يقبلون أن تغرد خارج سربهم.
تدوينة واحدة بسيطة عادية أعلن فيها بوعشرين عن مراجعة موقف واحد من موضوع واحد ومحدد، كانت كافية وكفيلة بأن تثير زوبعة غير مسبوقة (لكنها متوقعة) من التشهير والتخوين والقذف والجلدفي حق توفيق بوعشرين من طرف من كانوا بالأمس القريب يناصرونه ويمجدونه ويقدسونه ويعتبرونه رمزا للحرية والنضال وصوتا لما يعتبرونه حقا ويرونه صوابا… حيث تعرض بوعشرين لحملة قمع وقذف شرسة ومقيتة في التعاليق على تدوينته… فمنهم من اتهموه بأنه “باع الماتش” ومنهم من اتهموه بالتخاذل ومنهم من شكك في نواياه وفي خلفيات مراجعته ومنهم من نعتوه بـ”المطبل” ومنهم من ذهب بعيدا واعتبر أن بوعشرين الذي كانوا يعرفونه قد “مات” وأن الصحافة الحرة بذلك قد انتهت… كل هذا، فقط لأنه غير رأيا واحدا.
ها هم اليوم الذين كانوا يناصرون ويغررون ببوعشرين، هم من يجلدونه بكل ما أوتوا من قسوة وتجبر وديكتاتورية، لطالما كنا نحذر منها ونفضحها… ها هم اليوم من كانوا في الأمس القريب يحملون بوعشرين على أكتافهم، هم من يهاجمونه ويشككون في ذمته وفي خلفيات مراجعته، فقط لأنه قرر أن يغير موقفا واحدا من مواقفه السابقة بعدما تأكد أنه لم يكن صائبا… فقط لأنه فكر وغرد خارج سربهم… فقط لأنه أعمل ملكة العقل التي لا يريدون لمن يعتبرونهمملكا لهم أن يعملوها أو حتى أن يفكروا مجرد التفكير في إعمالها…ألهذه الدرجة منظومة الديكتاتورية تغولت داخل من يزعمون أنهم يناضلون ضد الديكتاتورية والسلطوية ؟؟ !!!
الأخطر من الهجمة المقيتة التي تعرض لها توفيق بوعشرين، والتي ندينها من هذا المنبر ونرفضها رفضا قاطعا، كما نعبر عن تضامننا مع بوعشرين.. الأخطر من تلك الهجمة هو الصمت الذي قوبل بها من طرف من كان يُفترض أن يكونوا أول المتضامنين مع بوعشرين حتى وإن اختلفوا معه في المراجعة التي أعلن عنها… وحتى وإن كانوا ولازالوا من أشد المعارضين والمنتقدين لمشروع القطار فائق السرعة، الذي أصبح يعتبره توفيق بوعشرين أنه “يطير بسمعة البنيات التحتية المغربية عاليا”…
أبهذه السهولة والهوان تبيعون بوعشرين في أول اختلاف؟؟ أبهذه السهولة والهوان تنقلبون عليه وتديرون له ظهركم الذي لطالما حملتموه عليه ؟؟؟
إنَّ صمت من بالأمس القريب استقبلوا واحتفلوا بتوفيق بوعشرين بعد خروجه من السجن، إن دل على شيء فإنما يدل، ليس فقط على تخاذلهم وخبثهم وقلة أصلهم وخيبة أملهم (الأسود) في أن يظل بوعشرين كما يريدونه أن يظل.. بل يدل بالأساس على قبولهم ومباركتهم لحملة الجلد والقذف والقمع التي تعرض لها بوعشرينفي ميدان (افتراضي) عام بكل بشاعة وقسوة ! فالخزي والعار لأشباه المناضلين والحقوقيين والخزي والعار لغرارين عيشة أينما وجدوا.. وكل التضامن مع بوعشرين !
وفي الختام، ومن باب التنويه… هؤلاء الذين باركوا وقبِلوا (بصمتهم) أن يُجلد بوعشرين بكل تلك القسوة والوقاحة، هم نفسالذين انتفضوا من أجل سليمان الريسوني بعد فضح أكاذيبه التي روجها مؤخرا في بعض الخرجات الإعلامية واعتبروا أنه ضحية لحملة تشهير… فالخزي والعار أيضا لهذا الكيل بمكيالين !