غادر المشهد الفني والثقافي صبيحة اليوم، مُشيَّعا بسيول الأمل والحسرة وغيوم الحزَن ووجع الفقد، زرياب العرب الأخير، الفنان المغربي سعيد الشرايبي.
الرجل الذي ذاع صيته شرقا وغربا، من المغرب وإلى اسبانيا وحتى مصر والعراق، أطرب الملايين بخفة وعذوبة أنامله. رجل أبدع في الرقص على المقامات والنسج بخيوط من حرير على أثير النغمات، مخلفا فسيفساء بديعة الألوان بين مغربي وفارسي وأندلسي وتركي، تشهد جميعا برسالة ريشته وأصالة رنات عوده الذي نادرا ما يبذل الزمان مثيلا أو شبيها لها.
الشرايبي الذي رأى النور في مراكش الحمراء في الثاني من فبراير عام 1951، قُدر له التألق في مجال الموسيقى، حيث فُرشت له طريق الاحتراف منذ وقت مبكر، الراحل أبدى براعة وتمكنا في سن جد مبكرة، فمنذ سن الثالثة عشر تفتقت مواهبه وعطايا الرب المتجلية في يديه ليجوب العالم الفسيح ناشرا نغمات السلم والمحبة في مختلف عواصم المعمورة.
لم يكتف الشرايبي بالعزف فقط، بل ألف ولحن لكبار الفنانين، وبحث كثيرا في علوم الموسيقى والمقامات، مقارنا بين مواويل الحجاز والعراق ومقاماتها وبين قدود وموشحات الأندلس وموسيقاها، ليجمع ما فرقته المسافات ويطرب عاشقيه حول العالم بجمال دندنات الروح التي تترجمها آلة العود مطربا العربي والعجمي، حاملا في كل رحلة عشق وطنه وهويته وثقافته شعارا وأداة لإشاعة الحب الإلهى والعظمة البشرية لكل صاحب أذن، عاكسا بذلك عراقة منبته وعظمة أرضه وموطنه.
Maestro Said Chraibi July August 2015معذرة إخواني أخواتي و كل محبي الموسيقار سعيد الشرايبي، إذ تأخرت مؤسسة سعيد الشرايبي للتراث المغربي الأندلسي، عن إصدار أي بيان رسمي حول وضعية الأستاذ الصحية الحرجة… فنحن لا زلنا نعاني من هول الصدمة… اللهم فرج كُربة أهلهُ و ذويه، اللهم ألبسه ثوب الصحة والعافية و الشفاء عاجلاً غير أجلاً يا أرحم الراحمينسعيد الشرايبي، ليس فقط عملاق العود و اللحن الموسيقي العبقري، بتأكيد من عشرات الأطروحات و البحوث الموسيقولوجية التي تناولت إبداعاته عبر العالم …، وليس فقط الشخصية العامة و المشهورة، بل هو الأب و الأخ و الصديق الوفي، و الأستاذ المُربّي و المُنظِّر، ذا إنسانية سمحة، و كَرَمٍ فيّاضٍ لا يُضاهيه إلا تواضعٌ أعجِزُ عن وصفِهِ، وعِلمٍ غزيرٍ قلَّ نظيرهُ، و فِكْرٍ صوفِيٍّ نجِد نسماتُهُ في الأندلُس، مع إبن عربي، وحيثُ تتأصّل ، بلا شكّ، جذور سعيد الشرايبي الأندلُسية، كما الصوفية و اللحنية…سعيد الشرايبي، وجهٌ من ملامحِ الحضارة بالمغرب، بل هو مَجْدٌ من أمجادِها، فهو، نخوة عالية لمدرسة العود المغاربية الوريثة الشرعية لحضارة الأندلس، المتفردة عن المدارس المشرقية…سعيد الشرايبي أيضاً عميد مدرسة لحنٍ و عزفٍ و حتى صناعة الآلات الوترية، نالت حظها من علمه و نبوغه…ما زال في القلبِ الكثيرِ الكثير، من الحبِّ و التقدير في حق سعيد الشرايبي، فادعوا معنا، له بالشفاء و الصحة والعافية!و شكراًمحمد بديع البوسنيرئيس مؤسسة سعيد الشرايبيللتراث المغربي الأندلسيلقطات من الفيلم الوثائقي (سعيد الشرايبي) – عزف حي للونغة نكريز، و بروفة لونغة هاجر، باستوديوهات مؤسسة هبة – يوليوز و غشت 2015Quelques Séquences du Film Documentaire ” Said Chraibi “Longa Nekriz performance Live, et Longa Hajar, répétitions dans les Studios de la Fondation HIBA, Juillet, Aout 2015
Posté par Fondation Saïd Chraïbi مؤسسة سعيد الشرايبي sur dimanche 7 février 2016
أبدع الفنان المغربي قطعا مميزة اشتهر كثير منها ك: خواطر أندلسية، نداء غرناطة، بيرم الحياة، التطريز الموسيقي، رقصة الفرسان، وقطع كثيرة، كما شيد رحمه الله، مشروعا ثقافيا عالميا هو “مؤسسة سعيد الشرايبي للتراث المغربي الأندلسي” الذي يعتبر بمثابة مدرسة ثقافية وفنية عالمية عظيمة ومنفتحة، لتعليم الشباب قواعد الموسيقى الأصيلة، وحفظ رسالة الفن الطربي الأصيل التي يتشبثون بها من التلف.
لحن الراحل لمشاهير الغناء المغربي، فكانت له تعاونات كثيرة مع الفنانة كريمة الصقلي والرائعة نعيمة سميح، والفنان عبد الهادي بلخياط والفنانة نزيهة مفتاح، ومن منا ينسى الموسيقى العبقرية التي تزينت بها شارات الفيلم السينمائي المغربي ياقوت.
تميز رحمه الله بالخلق الحسن وبالأناة والرقة والحس المرهف، أحبه أصدقاؤه ورفاقه ومجاوروه ورأوا فيه المثال الأرفع للمعلم والصاحب والموسيقي، الذي يحمل في دواخله الفن شغفا ورسالة.
نال الشرايبي جوائز وطنية ودولية عديدة أبرزها: الوسام العربي بالجزائر سنة 1984 عن أفضل مشاركة عربية، وجائزة العود ببغداد سنة 1986 وجائزة الموسيقى الغرناطية بباريس سنة 1992 وجائزة الاستحقاق بدار الأوبرا المصرية سنة 1994، وجائزة القدس والعود الذهبي بالرباط سنة 2002 والميدالية الذهبية “فن وعلم وآداب” بسلطنة عمان، وكانت أبرز جوائزه، جائزة زرياب المقدمة من اللجنة الدولية للموسيقى التابعة لمنظمة اليونسكو.
أبى الفنان المعطاء أن يرحل قبل أن يترك لعاشقي فنه ذكرى أخيرة، من خلال تعاونه الأخير مع الفنانة سامية أحمد التي أطلقت ألبومها “تحية” يناير الفارط، والذي كان تتويجا لسنوات من العمل والإبداع، فكان لوحة خلابة جمعت الأصيل بالحداثي، والشرقي والمغاربي، لتشكل بوابة روحية ذهبية لمختلف الأذواق والمشارب.
عمل ضم ألوان متعددة: ملحون وأندلسي وشرقي طربي وعصري، موقعا بكلمات كبار الشعراء والعارفين من قبيل الشيخ الحراق وابن عربي وابن زيدون وعلم الملحون بوعزة الدريبكي.
الراحل انتقل إلى جوار خالقه، مخلفا إرثا عريقا وعظيما من الإنجازات، حملت جميعها رسالة نبيلة وراقية، بعيدا عن الإسفاف والابتذال والخلط والعجن.
فمن لمشعل زرياب المغرب والعرب، بعد انطفاء جذوة الحياة في كفي الحاج سعيد؟؟؟