هل يصدق عاقل أن تكون حكومة أخنوش على وعْي بالعواقب الكارثية للاحتقان الشعبي؟
ماطيشة، خيزو، بطاطا، الكرعة (لمْكارعة): 12 درهم للكيلو. النعناع، القزبور، المعدنوس، الكرافس (التكرفيس): 5 دراهم للقبطة. الماعز، الخروف، البكرة (الحقرة): 100 درهم للكيلو. أصوات متداخلة تتعالى من على رفوف العربات الراجلة، وعلى رصيف الأسواق العشوائية المتناثرة في كل المدن المغربية، لتعكس حالات نفسية متأزمة، تختزل الوضع المعيشي الملتهب الذي قد يؤدي من فرط “الحكرة والتكرفيس”، إلى لمْكارعة التي لا تُحمد عقباها.
فمنذ نحو ثلاث سنوات وحكومة أخنوش تعيش على ثقافة العدم…عدم الإنصات لضمير المغلوبين والفقراء، عدم اتخاذ إجراءات ملموسة لمواجهة الغلاء، عدم الرفع من الأجور لتحسين القدرة الشرائية للفئات المتوسطة، وعدم المساواة والعدالة بين أبناء الشعب الواحد، حيث الأغنياء لا يدفعون الضرائب، بل الموظفون والأُجراء هم من يدفعونها، لأنها تُقتطع لهم من الأصل، أي من المنبع.
ثقافة العدم هاته تأسست وما تزال على منظومة من الرؤى والأفكار، التي تُكرس الخواء والعجز في فهم الواقع، وفي الوعي بالأزمات التي تتخبط فيها البلاد، وعلى رأسها أزمة الغلاء، وتدني القدرة الشرائية إلى أحط الدرجات وأسفلها.
ثلاث سنوات وحكومة أخنوش قابعة في متاهات الوعود الفارغة، عاجزة عن تجديد نفسها وآليات عملها، بما يُمكّنها من فهم أن الضائقة المعيشية التي استفحلت بشكل مهول في عهدها، ليست ضائقة اقتصادية صرفة، بل هي ضائقة اجتماعية، ونفسية، وأمنية، وسياسية في آن واحد، يتحول معها الإحساس بالغُبن، من حدث انفعالي فردي، إلى حدث جماعي قد تنتج عنه موجة سخط عارمة، يصعب على أخنوش وحكومته احتواءها.
وبما انه فهم ممزَّق، يُغيّب الفئات المتوسطة والفقيرة، بل يعتبرها صفرا مهملا في سياسته الاقتصادية، فان هذا الفهم ينحلُّ إلى مشروع حكومي فاشل لا يتوافق مع مقتضيات العدالة الاجتماعية المطلوبة. وبهذا المعنى، فإن أزمة الوعي عند أخنوش وأعضاء حكومته، بالأزمة الحقيقية التي يتخبط فيها البلد، ما هي إلا تعبير عن أزمة موازية في التركيبة السياسية للحكومة التي تتعاطى بارتجالية مُستهجنة مع مختلف القضايا المجتمعية.
ومن هنا، فإن المنحى التصاعدي الذي تعرفه أسعار المحروقات، والمواد الأساسية، والمنتجات الغدائية بما في ذلك الخبز الذي زاد ثمنه بنسبة 25%، وقنينات الغاز التي ارتفعت بنفس النسبة، يأتي، والحالة هاته، وسط دوامة الأزمة الناجمة عن تدهور القدرة الشرائية، والتي تنذر بموجة من التذمر والسخط، لن تلبث أن تنعكس في حركات الشارع، وفي المظاهرات والاحتجاجات الناقمة على ثلاث سنوات من الارتجال، ومن الضرب في القدرة الشرائية، ومن الإجهاز على القوت اليومي للمواطنين من ذوي الدخل المحدود، وحتى الفئات المتوسطة.
الأوضاع المتأزمة تستدعي منا طرح سؤال محوري بكثير من التقزز والحسرة: ما الذي أصاب الدوائر الحكومية لتكريس مظاهر التحقير للمحتاجين، وذوي الدخل المحدود، وإنكار حقهم في العيش الكريم، في ظلال بيئة اجتماعية سليمة، يبنون من خلالها وجودهم، على أساس الكرامة المقرونة بالعدالة الاجتماعية؟ وماذا اقترفه المواطن من ذنب، حتى ينتقل من تيار اجتهد طيلة عقد كامل من الحكم، في توطين مشروعه الإسلاموي في كل جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، موهما المغاربة بأن وصول الإسلام السياسي إلى السلطة، يشكل اكتمالا للإسلام ونهضة اقتصادية وتنموية شاملة. انتقل من هكذا تيار يقوده المُهرج، عبد الإله بنكيران، إلى رجل بادر منذ الشهور الأولى من حكمه، إلى ضرب جيوب المغاربة، بشكل لم يعد بإمكان جل المواطنات والمواطنين، تحمّله، وقد نفذ صبرهم وبلغ السيل الزبى، بعد الإصرار الحكومي على التحامل على معيشهم، من خلال الزيادة في كل ما هو مرتبط بمصروفهم اليومي، وانعكاس ذلك على قطاع الخدمات التي ارتفعت بنسبة تفوق 100%. وضع يؤسس لغضب اجتماعي وشيك، لا يصدق عاقل أن تكون حكومة أخنوش على وعي بعواقبه الكارثية من الناحيتين الاجتماعية والسياسية.
الدوائر الحكومية تردّ في تصريحاتها المختلفة، بأنها تتخذ إجراءات فعالة لمواجهة غلاء الأسعار. ردود يكتنفها الكثير من الغموض، وفيها نوع من الهروب إلى الوراء، حيث المشكلة لا تنحصر في مجرد الغلاء الذي قد يخضع أحيانا لمنطق السوق، وجبروت العرض والطلب، ولعوامل أخرى يصعب معها تسقيف الأثمنة في سياق اقتصاد حر، يسعى اليوم في ظل العولمة الاقتصادية المجنونة، إلى تبضيع الدنيا ومن عليها. وإنما المعضلة الكبرى، تكمن في تدني القدرة الشرائية التي هي مسئولية ثابتة للحكومات، والتي قضى عليها عبد الإله بنكيران، طيلة عقد كامل من الحكم، وزادها استفحالا عزيز أخنوش، بعد أن أرفقها بالارتفاع المهول في الأسعار.
نفس الدوائر تذهب إلى أن أخنوش يسعى من خلال الزيادة في الأسعار، إلى خلق الثروة، ومعها خلق مصادر دخل جديدة، لتوفير فرص عمل للشباب، وتحسين معدل البطالة الذي تجاوز 13% في عهد بنكيران. مبررات على شكل خُدَع، لم تعد تنطلي حتى على حتى بسيط التكوين من المواطنين، الذي يفهم جيدا أن خلق مصادر الثروة، ليس بالضرورة أن يتم على حساب جيوب المواطنين. فهناك الإعفاءات الضريبية التي يستفيد منها الأغنياء، ومن بينهم على سبيل المثال لا الحصر، كبار الفلاحين الذين يتقنون لعبة الاستيراد والتصدير، فيما الأجير يدفع مرغما الضريبة على الدخل. وهناك “الرحمة” الضريبية برجال الأعمال وبكُبريات المؤسسات الصناعية والتجارية، ومنها الخصوص المؤسسات الصحية والعيادات الكبرى، التي تحظى بتسهيلات ضريبية كبيرة، فيما المريض يؤدي مرغما الضريبة على الدواء بنسبة 7%.
الموطن البسيط أصبح يفهم ما ترفض الحكومة فهمه، من أن خلق مصادر الثروة لا يأتي من خلال الإجهاز على قوت المواطنين، وإنما من مراجعة حقيقية للنظام الضريبي، تحقيقا للعدالة الجبائية، ومن التطبيق الصارم للقانون على المحتكرين، والمضاربين المتلاعبين بالأسعار.
واللافت في الأوضاع الاجتماعية المتردية التي تعيشها شرائح واسعة من أبناء الوطن، الحضور الباهت للنقابات وأحزاب المعارضة، وخاصة الاشتراكية، التي تراجعت قدرتها بشكل كبير على التأطير، ومع هذا التراجع، تدهور منسوب الثقة فيها كشريك اجتماعي يمكن التعويل عليه. سبب ذلك، الجمود الذي يشوبها، والانقسامات الداخلية التي زاد من حدتها الصراع على مواقع القيادة. وهو ما جعل البعض يذهب إلى القول، فيما يشبه اليقين، إن أحزاب المعارضة والنقابات المنضوية تحت لوائها، باتت اليوم في مواجهة اختيارٍين لا ثالث لهما، إما أن تقترب أكثر من المواطنين ومن انشغالاتهم وتطلعاتهم، أو الدخول في قطيعة معهم، قد تقضي على ما تبقى لديها من شعبية باهتة، في أوساط الشباب أولا، ولدى الفئات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة.