هل تهزم “حصّالتي” حكومة إيمانويل ماكرون كما هزمت حكومات ورؤساء آخرين..؟
“حصّالتي” (ma tirelire) هزمت الكثير من الحكومات الفرنسية قبل ربع قرن، وهي في طريقها لهزم حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون الذي تشهد شعبيته تراجعا حادا إلى درجة يبدو معها معرضا لاحتجاجات ربيعية واسعة بفعل التذمر الاجتماعي الذي بلغ ذروته في السنة الماضية.
“حصّالتي” التي تنقذني كلما لجأت إليها ترفض أن تكون لي وحدي. فهي تُسعف كذلك ملايين المحتاجين الفرنسيين الغرباء ممن ضاعت منهم الهوية وحتى المواطنة لمجرد كونهم فقراء (الفقر في بلاد الوطن غربة، والغنى في بلاد الغربة وطن).
ثمة شريحة واسعة ممن يعولون كثيرا على “حصالتي”، بلا وطن وهم في قلب أوطانهم، وبلا هوية بعد أن ضاعت منهم بفعل الهجرة والتمييز العرقي وانتكاسات التاريخ. يُصنفون ضمن أبخس الفئات وأكثرها حرمانا من الحقوق والرعاية.. منهم من هو فرنسي الأصل والنشأة، ومنهم من ينحدر من أصول اغترابية (أفارقة، مغاربيون، آسيويون..)، لكنهم يشتركون، في صلب تنوعهم، في افتقارهم لحاجة الإنسان الأساسية وهي العيش الكريم.
جميع هؤلاء يلجأوون إلى “حصّالتي” (مؤسسة الإنقاذ)، وهي مؤسسة بنكية يطلق عليها “مصرف باريس البلدي”، مهمتها تسليف مبالغ صغيرة بنسبة فائدة تقل عن واحد في المئة.
تأسست “حصّالتي” في بداية القرن (2001) تحت اسم “يد الرحمة” لمساعدة الفقراء. وقد تطورت بشكل سريع وباتت تكفل “نفقات نهاية الشهر” لعدد كبير من الفرنسيين الذين يتوجهون إلى شبابيك “حصّالتي” لاقتراض مبالغ متواضعة جدا تتراوح ما بين 50 أورو إلى 100 أورو (500 إلى ألف درهم) بفائدة 0.8% ولمدة قصيرة جدا لا تتجاوز الثلاثة أشهر، ولكنها تسمح للموظف أو المستخدم أو العامل بتجاوز فترة مالية صعبة بانتظار راتب آخر الشهر.
و”حصّالتي” أصبح ينظر إليها اليوم على أنها من أهم مؤشرات الأوضاع الاقتصادية بفرنسا، إذ يمكن بسهولة معرفة مقياس الأزمة المالية في البلد وكذا الصعوبات التي تعترض الفرنسيين ذوي الدخل المحدود، فقط من خلال ارتفاع أو انخفاض عدد الوافدين على شبابيكها. وقد سجلت “حصّالتي” في السنة الماضية أرقاما قياسية باستقبالها في شبابيك باريس وحدها (12 شباكا) نحو ألف وافد يوميا، من دون احتساب ال”حصّالات” ال26 المتواجدة بمختلف مناطق فرنسا وعدد شبابيكها 170 شباكا.
لقد بنى ماكرون حملته الانتخابية على تخويف الفرنسيين من مغبة طروحات اليسار الاشتراكي وعلى أهمية خياراته القائلة بتغليب الاقتصادي على الاجتماعي، لكنه سرعان ما تنكر لوعوده بشأن فرض ضرائب جديدة على الأغنياء خشية أن تهرب الرساميل الفرنسية والأثرياء إلى الخارج، وارتأى، على حد قول أنصاره، التعامل بقدر أكبر من الواقعية مع مشاغل الفرنسيين،.
عدم وفاء ماكرون بالتزاماته سيدخله حتما في قطيعة مع الفرنسيين قد تقضي على ما تبقى لديه من شعبية باهتة في الأوساط الفرنسية وخاصة الشباب والفئات المغلوبة. وهو حتى اليوم، لم ينتبه إلى الصفوف المتراكمة عند شبابيك “حصالتي”، ولم ينتبه أيضا إلى تراجع القدرة الشرائية بمعدلات قياسية، وإلى ارتفاع البطالة بمعدلات هي الأخرى مهولة. وبين معادلة التراجع والارتفاع، طفت على السطح حقيقة مؤلمة لم يضعها الرئيس ماكرون في حساباته الانتخابية، ومفادها أن ثمانية ملايين فرنسي أصبحوا يعيشون اليوم على حافة الفقر المحدد بنحو 800 أورو شهريا.. هؤلاء هم من سيخرجون قريبا في احتجاجات ساخطة لأنهم ببساطة لا يهتمون برساميل الأغنياء ولا بالأغنياء.. هؤلاء يريدون خبزا ومسكنا اجتماعيا يأوون إليه في نهاية يومهم.
لم ينتبه ماكرون وهو يغازل اليوم فئة الميسورين وأرباب العمل لعلهم يخلقون ثروة إضافية قد لا تأتي، إلى مئات الآلف ممن يقصدون “حصّالتي” شهريا ليحصلوا على ما يمكن أن يساعدهم لمواجهة ظروف العيش الصعبة. فالأغنياء ومعهم البنوك الكبرى التي يقدم لها ماكرون المساعدات تلو المساعدات كي لا تُفلس، لا يعرفون شبابيك “حصّالتي” لأنهم لم يقرؤوا جيدا استطلاعات الرأي القائلة إن أزيد من نصف الفرنسيين (54%) لديهم “فوبيا الجوع والتشرد” أي أنهم يخشون من أن يصبحوا في الشارع مشردين بلا مأكل ولا مأوى. ويتغلغل هذا الخوف حتى لدى الموظفين العموميين.
وفي بلد يضم 68 مليون نسمة، يشعر نصف السكان اليوم بعدم الارتياح من أوضاعهم المعيشية. وفي
مقدمة الأسباب، تكاثر الديون (31 في المئة) والفصل عن العمل (21 في المائة)، وهو خوف مشروع خاصة وأن أربعين في المئة من الفرنسيين غارقون في ديون مرتفعة.
وقدرت مؤسسة “الأب بيير” التي تنشر سنويا تقريرا حول سوء السكن في فرنسا، بنحو 2.3 ملايين شخص يخترقهم كابوس التشرد، وبنحو مليون من المحرومين من منزل شخصي. وبين هؤلاء مئة ألف يعيشون على مدار العام في المخيمات أو المنازل البلاستيكية، و50 ألفا في الفنادق العمومية، و150 ألف لدى آخرين، إما أصدقاء أو أقارب.
يقول ماكرون إنه يواجه أزمة مالية لم تشهد مثلها فرنسا، إلا أن أهم ما يذكره الفرنسيون من جهوده في معالجة الأزمة التي يتباهى بقدرته على تطويقها، هي الأموال التي ضختها الحكومة لإنقاذ المصارف التي تمكنت بعد أقل من سنة من تسجيل أرباح قياسية، بينما غرقت الحكومة في عجز غدت تسده من خلال الاستدانة من هذه المصارف نفسها وبفوائد كبيرة.