هناك من يُحاول عَبثا ترسيخ سردية خاطئة وسريالية مؤداها “أن العفو الملكي السامي هو مُجرد آلية لتصحيح الأخطاء القضائية”!
وهذه السردية، على عَبثيَتُها وذاتيَتُها المتطرفة، تَنطوي على مَخاطر عديدة ومُغالطات مُتعدِّدة.
وتَتمثل مَخاطر هذه السَردية في كَونها تُقصي أطراف أصيلة في الدعاوى والملفات القضائية، ويَتعلق الأمر هنا بالضحايا والمطالبين بالحق المدني وشُهود الإثبات والنيابة العامة باعتبارها الخَصم الشريف الذي يُمثل المجتمع!
فمن يُحاول تثبيت سَردية “العفو كمُرادف للخطأ”، إنما يُقوِّض أركان الجريمة التي حُكِم من أجلها المستفيد من العفو، مع ما يستتبع ذلك من افتراض مَبدئي للإدانة في الضحية والتشهير به، من خلال تَصويره كمُجرَّد “كومبارس” تمت الاستعانة به لاتهام المشتبه فيه وإدانته.
وبالقياس مع قضية توفيق بوعشرين وسليمان الريسوني وعمر الراضي، فإن أصحاب هذه السردية الأخيرة، التي تَختزِل العفو الملكي السامي في إصلاح الخطأ القضائي، إنما يُمعِنون في التشهير بالضحايا مِثلما فَعلوا سابقا عندما كانوا يَنعَتون النساء ضحايا توفيق بوعشرين وعمر الراضي بعبارات قَدحية من قبيل “نساء التجريم”.
ومن بين مَخاطر هذه السَردية كذلك، أنها تُؤوِّل مَقاصد العفو الملكي وتُقدِّم قراءات ذاتية لنوايا جلالة الملك!
فعندما يَجزِم صاحب هذه السردية بأن “هذا العفو لا يَحتمِل أي مَعنى غير تصحيح الأخطاء”، فهو يُقدِّم نفسه القارئ الحَصري لنوايا الملك والمطلِع على مَقاصده السامية! بل إن هذه القراءة تَنزَع عن العفو الملكي مُنطلَقاته الإنسانية وغاياته التَسامُحية، وتَجعلُه مُجرَّد وَسيلة إجرائية لتصحيح الأخطاء!
ووِفق هذه السَردية السريالية، فإن جميع من استفادوا من العفو الملكي كانوا دائما ضحايا أخطاء قضائية، والمحاكم المغربية لا تُفرِز سوى مُدانين هم في الأصل ضحايا الأخطاء، وأن جَميع الضحايا والمطالبين بالحق المدني كانوا مُجرَّد أدوات مأجورة وشريكة في إنتاج الخطأ القضائي!
ومن مَخاطر هذه السَردية العبثية أيضا، أن صاحبها “يُهاجر بشَكل غير مَشرُوع” بالعفو الملكي السامي من نِطاقه الأساسي، كمُبادرة ملكية سامية وكالتفاتة إنسانية تَصدَح بالرأفة، ويَرمي بها إلى خانة “ردة الفعل الإجرائية”، التي لا تَحتَمل من مَعنى سوى تَصحيح الأخطاء القضائية.
وهكذا، فبعدما كان العفو الملكي السامي مُبادرة ملكية يَنتظرها الجميع، ويَتلقَّفها الكل بالفَرح والحُبور، جاءت السردية السريالية الجديدة لتُفرِغ العفو من مَقاصده النبيلة وتُقدِّمه “وكأنه مُجرد رَدة فعل لاحقة تُحركها غايات تصحيحية فقط”!
وفي المقابل، فإن من يُحاوِل تَثبيت هذه السردية السريالية إنما يَقع في مُغالطات عَديدة، قد تَزيغ بالقارئ لتَكوين قَناعات مُضللة.
فلو افترضنا جدلا أن العفو الملكي لا يَحتمل سوى تَصحيح الأخطاء القضائية، كما يَزعَم أصحاب هذه السردية، فلماذا لم يَنص عليه المشرع المغربي صراحة في ظهير العفو ويَعتبره آلية لإصلاح الأخطاء؟
ولماذا لم يُدرِج قانون المسطرة الجنائية “العفو الملكي” في وَسائل الطَعن الاستثنائية التي تأتي لتصحيح الأخطاء التي تَسرَبت للأحكام القضائية، مثل “إعادة النظر والمراجعة”؟
ولا تَقِف مُغالطات أصحاب هذه السَردية عند هذا السقف فقط، بل تتعداه إلى ضرورة تحديد مفهوم “الخطأ” الذين يَقصدونه بكلامهم. فهل يَقصدون الخطأ في أركان الجريمة، أو في الوَضع القانوني للضحية، أو الخطأ في مَدى تَورُّط المتهم، أو الخطأ في المتابعة من أساسها، أو الخطأ في المحاكمة، أو أن الخطأ يَقتصِر فقط على الإدانة؟
فتَحديد مَفهوم ونِطاق الخطأ ضروري عندما نَتحدث عن قضية جنائية تَضٌم عدة أطراف! فالحديث بشكل فضفاض ومُجرَّد عن الخطأ قد يُحيلنا إلى تَشكيل قَناعات إقصائية لطَرف على حساب طرف آخر، وقد تَدفَعُنا هذه العمومية المشوبة بالسطحية لازدراء المحكمة وتَحقير المقررات القضائية، وقد تَزيغ بنا، كما زاغ بالبَعض، إلى تأويل وتفسير مَقاصِد الملك وِفق قراءات ذاتية قاصرة.
وللأسف الشديد، فإن من يُحاوِل تَوطين وتَوطيد هذه السَردية في عَقل القارئ، إنما يُفرِغ العفو الملكي السامي من مَقاصده الإنسانية النبيلة، ويُساهم مِن حيث لا يَدري في التطبيع مع الإفلات من العقاب، عَبر تقديم الجُناة المدانين كضحايا وَهميِّين، وعبر تَصوير الضحايا الحقيقيين كمُساهمين سَلبيين في إنتاج الخطأ القضائي المزعوم.