شكل انفجار الاحتجاجات الاجتماعية بسبب زيارة الموت مرارا وتكرارا لمناجم المعادن قرى ومدن صغيرة بالمغرب الشرقي العميق، الحدث الأبرز خلال الأشهر الماضية، حيث اعتبرت فرصة حقيقية لنهاية معاناة عمرت لعقود طويلة.
في ثاني حلقات برنامج “برلمان الجهات” الذي اختار محطته الاولى بجهة الشرق، زرنا قريتي تويسيت وبوكر، اللتان نشأتا إبان الحقبة الفرنسية لأجل استغلال الثروة المنجمية المعدنية، قبل أن تنتقلان من قوة النشاط المنجمي والقطبية العمالية إلى مدن أشباح بعد توقف استغلال مناجهما .
في تويسيت التي تبعد حوالي 30 كيلومترا من عاصمة الشرق وجدة، تتراءى الحدود المغربية الجزائرية بجبال مثلجة وحده البرد القارس ما يشعرك بكثافة ثلوجها.
بمجرد ولوجنا ممرات تويسيت، كان في انتظارنا بعض أبناء المنطقة الذين، كانوا يريدونا لمجيئنا فرصة لنقل معاناة عمال مناجم الرصاص المتبقية، والتي شهدت قبل أسابيع إصابات خطيرة ووفيات في صفوفهم، تم طمرها وطمر الاحتجاجات حولها بقصة تواطؤ حول الموت، ستفاجئنا لاحقا.
مع إصرار شباب المنطقة الذين كانوا دليلنا، على عدم كشف هوياتهم، توجهنا نحو أحد المناجم المتبقية بالمنطقة، والذي تسمى هناك بـ”الغار” لرصد ما يمكن رصده حول معاناة صامتة لم يكشف منها إلا القليل.
استوقفتنا في طريقنا نحو “الغار” الذي يستخرج منه معدن الرصاص وبعض المعادن الرديفة الأخرى، مشاهد صادمة لـ “تويسيت”، قرية صغيرة خالية على عروشها، إلا من برد قارس وبقايا معامل المناجم التي بقيت شاهدة على حقبتي الاستعمار والاستقلال اللتان سلبتا لب الأرض ورمتا بنفاياتها السامة فوق وجهها، مانعة أي مستقبل للحياة فيها.
في طريق وعرة اتجاه “الغار”، بدا لنا عن قرب خطورة هذه المناجم التي أصبحت تهدد حياة العشرات من العاملين وهو ما أكده لنا شباب المنطقة، الذين زادوا أن تهديد حياة العاملين بالغار تجاوزت أبناء المنطقة، بعد “غزو” شباب مناطق بعيدة بحثا عن رزق يسير من عمق الموت.
دخول أبناء من غير المنطقة إلى مغامرة البحث عن معادن الأرض المحفوفة بالموت، شكل أزمة جديدة داخل “غار” تويسيت، دفع السلطات إلى محاولة ردم الغار خوفا من تجدد كوارث إنسانية، وهو ما لم يقبل به شباب المنطقة الذين يستخرجون قوت يومهم من معادن يسيطر على أباطرة المناجم غير القانونيين.
فوجئنا بمجرد صعودنا منعرجات الطريق نحو “الغار” لاستقاء تصريحات العمال الذين يحتمون بالداخل ضد موجة البرد والأمطار والثلوج التي توقف مؤقتا التنقيب المنجمي، بمنعنا من التصوير من طرف أحدهم بدعوى أن السلطات حذرتهم من تصوير وسائل الإعلام لحقيقة ما يجري هناك.
مانعنا الذي فهمنا لاحقا أنه يمثل عينا لأحد أباطرة المعادن، لم يتنازل عن منعه لنا، مبررا الأمر بعد حشده دعم البقية، بأن أبناء المنطقة اتفقوا مع السلطات المحلية على دفن موتى الغار والتكفل بمصاريفه دون حس للثورة أو التحدث عن المعاناة لأي أحد، فيما يشبه تواطؤا لأجل الموت الصامت.
تفاديا لكل صراع أو اشتباك غير مرغوب فيه مع صاحب المنع، قررنا التراجع بعيدا، ليس للاستسلام، لكن للمحاولة مجددا، متجهين نحو مقرات السلطات العمومية بالمنطقة لتوفير حماية لنا من أجل نقل معاناة الغالبية الصامتة وراء الغار المظلم.
محطتنا الاولى كانت مقر مفوضية الشرطة حيث قدمنا وثائق ترخيصنا الرسمية المسلمة لنا من مصالح وزارة الاتصال، لتمكيننا من حماية قانونية لإتمام مهمتنا
طال مقامنا زهاء ساعة بمقر مفوضية الشرطة في انتظار الاجراءات والتواصل مع مسؤولي السلطة العمومية لتمكيننا من رفقة إلى الغار، لنخبر بالنهاية أن جهاز الأمن لا يملك أية صلاحية في هذا الشأن.
غادرنا أدراجنا لمقر قيادة تويسيت بوبكر، لتجربة لربط الاتصال بقائد القيادة أو أي مساعد له للتمكن من إكمال مهمتنا، لنتفاجأ بمقر القيادة موصد الأبواب في وقت العمل، وفارغا حتى من حارس الأمن المكلف بالمداومة الذي ظهر مكتبه مضيئ الانوار، غير مبال بطرقنا لأبواب القيادة قصد ربط الاتصال بأقرب مسؤول،
سجلنا وباستغراب اختباء السلطة من وسيلة إعلامية عكس ما يتعارف عليه من منع السلطات في مواقف متعددة لإعلاميين غير مرخصين.
غادرنا تويسيت في اتجاه وجدة تحت جنح الظلام وتساقطات ثلجية كثيفة كادت تقطع طريق عودتنا، حاملين في جعبتنا حكاية منع ممنهجة لكشف حقيقة تواطؤ حول الموت، أساسها وضع اقتصادي واجتماعي مزري لمواطنين مع وقف التنفيذ وصمت سلطات لا يبرره سوى العجز عن تقديم بدائل اقتصادية حقيقية.