الأخبارركن الميداوي

كيف تغلغلت فوبيا التشرد لتصيب أزيد من نصف سكان فرنسا؟

الخط :
إستمع للمقال

العثور أول أمس على جثتين جامدتين برصيف محطة غاريبالدي بميترو الأنفاق بباريس، وواحدة بحديقة فانسان بضواحي العاصمة، وجثتين بمدخل حديقة “فلوبير” بمدينة بوردو، وعلى خمس جثث بأماكن متفرقة بمدينة ليون، وثلاث جثث، اثنتان برصيف الحي الإيطالي بمرسيلية.. الحصيلة 13 جثة في يوم واحد (26 فبراير).

وفي كل سنة مع حلول شهر مارس، تشرع فرنسا في رثاء المئات ممن حصدهم صقيع الخريف والشتاء، بشكل فوري، وترك الآلاف يموتون ببطء بعد أن يتغلغل البرد في أجسادهم فيصبح العلاج ضربا من الخيال.. 456 قضوا سنة 2022 و532 سنة 2023 و382 إلى حدود الاثنين الماضي.. لم يموتوا أعزاء من أجل فرنسا، بل ماتوا بشكل عبثي بفرنسا بعد أن قذف بهم البؤس والإقصاء إلى الحدائق وبوابات العمارات وإلى الزوايا العارية في المكان.

من هؤلاء القتلى الأبرياء؟ وإلى أي صنف من الآدميين ينتسبون؟ إنهم بخلاصة صقيعية مشردون يغتالهم الصقيع كل يوم. يطلق عليهم (الإس.دي.إيف) أي الأشخاص الذين لا يجدون مأوى يعودون إليه في نهاية يومهم. ويُنظر إليهم على أنهم بشر بلا مكان، أي بلا هوية ولا حتى مواطنة، ما دام المكان (الموطن) هو برأي الفقهاء الدستوريين المكوّن الرئيسي لبناء الدولة. ومن الأليق أن نسميهم بشرا من الدرجة الحضيضية. يختبئون في الأنفاق وفي الزوايا العارية من المكان، هروبا من شرطة الأدب أو من مرشحين يتسوّلون أصواتا ضائعة على خلفية وعود زائفة بتمليكهم عقارا أو تقويم أوضاعهم، وهم فوق ذلك من الفئات الأكثر إقصاء ً وتهميشا في الإنسانية التي أصبحت كالفندق درجات في ظل العولمة المجنونة.

البعض منهم فرنسي الأصل والنشأة، والبعض الآخر ينحدر من أصول اغترابية (أفارقة، مغاربيون، آسيويون..)، لكنهم يفتقرون في صلب تنوعهم، لحاجة أساسية اسمها المأوى. عددهم يتجاوز المليون شخص ممن يختبئون في المخيمات العشوائية وفي الأنفاق بحسب المنظمات الإنسانية، بينما تقدرهم وزارة الداخلية بنحو 200 ألف نصفهم في العاصمة باريس وضواحيها.

ولأن وزارة الإسكان ومعها وزارة الأسرة أدارت ظهرها لفئات أخرى غير فئة المشردين، فقد دعت الفدرالية الوطنية لجمعيات الإيواء وإعادة الإدماج التي تضم 750 جمعية إنسانية، الفرنسيين من كل المشارب والفئات إلى “ساحة الأمم” بباريس لقضاء ليلة السبت 2 مارس تحت السماء مع الضائعين المحرومين ممن لا مأوى لهم. ونصبت لهذا الغرض مئات الخيم البلاستيكية الصغيرة مفروشة بمئات الأغطية التي سيتقاسمها المتظاهرون مع المشردين في التفاتة إنسانية أصرت معها الفيدرالية على أن تشمل في الأيام القادمة مختلف أرجاء فرنسا حتى تعطي مثل هذه المخيمات صورة مجسدة عن معاناة فئات واسعة من النساء الوحيدات والشبان والمسنين والفقراء.

والخوف من التشرد أضحى ظاهرة مقلقة في فرنسا حيث أظهر استطلاع للرأي في أواخر سنة 2022 أن أزيد من نصف الفرنسيين لديهم “فوبيا التشرد”، (52% يخافون من أن يصبحوا في الشارع مشردين بلا مأوى). ويتفاقم هذا الخوف ليتغلغل في نفوس حتى أصحاب الرواتب.

وفي بلد يضم نحو 70 مليون نسمة، يشعر نصف سكانه اليوم بأنهم مهددون مباشرة بالتهميش والتشرد، وهو عدد يفوق بكثير سبعة ملايين ممن يعيشون تحت سقف الفقر الذي حُدد بنحو 900 أورو شهريا، بحسب المعهد الفرنسي للإحصاء الذي أفاد بأنه خلال عام 2022 كانت الموارد الأساسية ل29 في المئة من الأشخاص بدون مأوى تتأتى من العمل و21 في المئة من التعويض الأدنى للاندماج، وهو المورد الأدنى الذي تمنحه الدولة، وثمانية في المئة من التعويضات عن البطالة..

ويكشف المعهد أنه في مقدمة الأسباب التي تجعل الناس يخشون من أن يتحولوا إلى مشردين، تعاظم الديون (32 في المئة) والفصل عن العمل (20 في المائة)، وهو خوف جائز خاصة وأن أزيد من أربعين في المئة من المشردين غارقون في ديون تقدر أحيانا بآلاف الأوروات. وفي غياب إحصاء دقيق ومتكامل للمشردين، قدرت مؤسسة “الأب بيير” الإحسانية بنحو 3،4 مليون شخص يعانون من هذه الظاهرة، وبنحو 900 ألف من المحرومين من منزل شخصي. ومن بين هؤلاء 350 ألف يعيشون على مدار العام في المخيمات أو في المنازل الجاهزة، و170 ألفا في الفنادق، و200 ألفا لدى آخرين، إما أصدقاء أو أقارب.

وتقدر الجمعيات الإنسانية حاجيات المشردين بمليار و500 مليون أورو عوض 270 مليون التي خصصتها الحكومة الفرنسية في متم السنة الماضية لمعالجة الوضعية والشروع في بناء مساكن اجتماعية لإيوائهم. وبالرغم من التدابير الاستعجالية الخاصة التي اتخذتها الحكومة لإيجاد سكن إجباري للمشردين، وبالرغم من التصريحات والإعلانات التطمينية، فإن جمعيات مساعدة المشردين، تنظر بعدم الارتياح للإجراءات الحكومية التي تنقصها الرؤية الدقيقة للوضع المتفاقم سنة بعد سنة.

ومنذ نحو عقد أو يزيد، أصبح التهميش متعدد الأشكال يتسبب في تصدع داخل المجتمع برمته. وظهر ذلك بجلاء من خلال نساء وحيدات (52 بالمئة من الفرنسيات يعيشن اليوم بدون زوج) وشبان عاطلين وعجزة مسنين، وعمال محدودي الدخل ليس لهم مكان في لائحة السكن الطارئ المكتظة تماما.

وعلى الرغم من أن المطالبة بضمان حقوق المشردين قديمة، فإن مصطلح “السكن الإجباري” ظهر لأول مرة في فرنسا سنة 2002 في التقرير الذي أصدرته “اللجنة العليا من أجل السكن”، واقترحت حينها “إدماج بند قانوني لإيواء المشردين”. وسبق ذلك صدور قانون سنة 1990 الذي يعترف بأحقية كل فرد في سكن لائق وإعانة لذوي الدخل المحدود، إلا أن وضعية المشردين ظلت على حالتها السيئة لعدة عقود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى