من استبقوا العرس وبدأوا بإحصاء خسائر المغرب المتخيلة، وأرباحهم المتوهمة ربما، بعد إعلان المغرب وقف الاتصال بمؤسسات الاتحاد الأوروبي لابد وأن يشعروا بالعار.
فقد كشف سفير المغرب لدى الاتحاد الأوروبي السبب الذي جعل المغرب يتخذ قراره السيادي والمعلل بوقف الاتصال مع تلك المؤسسات وليس قطع العلاقات أو إلغاء اتفاقية الشراكة الموقعة بين الطرفين سنة 1996، التي دخلت حيز التنفيذ سنة 2000 بعد استكمال مسلسل مصادقة البرلمانات الوطنية لدول الاتحاد الأوروبي عليها، أو إلغاء الاتفاقية الفلاحية نفسها باعتبارها امتدادا لاتفاقية الشراكة.
فالدولة المغربية، كدولة مسؤولة ولها كرامة وعزة نفس ومصالح لا تنحصر في حدود التجارة والمال، تتصرف وفقا للقواعد الدولية التي تؤسسها اتفاقية 1969 المتعلقة بالمعاهدات وتدافع عن حقوق المغرب وفق المعايير التي تضعها، وكان من حقها كطرف متعاقد ودولة صديقة أن تحاط علما بمضمون استئناف دول الاتحاد الأوروبي لقرار المحكمة الأوروبية وأن تستشار حتى وإن كان الاستئناف يعني هذه الدول، لأنه كان المستهدف بقرار سياسي صادر عن هيئة قضائية يقوم على أساس تجاوز مكشوف بقبول التعامل مع من لا يكتسبون الشخصية المعنوية الدولية ولا يعترف لهم بها الاتحاد الأوروبي نفسه.
ذلك أن المادة26 من اتفاقية الاتفاقيات لسنة 1969 تنص على أن “كل معاهدة نافذة ملزمة لأطرافها وعليهم تنفيذها بحسن نية.” .وحيث أن الاتفاقية الفلاحية مترتبة عن اتفاقية الشراكة، وحيث أنها عقدت برضا الطرفين وتمت المصادقة عليها من طرف البرلمانين الأوروبي والمغربي، ولم تعقد تحت تهديد ولا كانت قائمة على تدليس أو إفساد للطرف المفاوض أو غيرها من الأمور التي تبيح إسقاط اتفاقية.. ولا ينجم عنها التزام لطرف خارج الطرفين، فإنه غير متاح للاتحاد الأوروبي التصرف خارج التزاماته أو الاحتجاج حتى بحكم المحكمة الأوروبية نفسه أو بالاحتجاج بالقانون الداخلي.
وكل خلاف حول هذه الاتفاقية المصادق عليها من الطرفين له مسطرة للتحكيم والتقاضي لا تهم المحكمة الأوروبية، كمحكمة داخلية للاتحاد الأوروبي، وإنما محكمة العدل الدولية في حال اتفاق الطرفين المتعاهدين على اللجوء إليها.
لقد نظر المغرب بإيجابية للقرار الجماعي للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي باستئناف قرار محكمة العدل الأوروبية الذي يعبر عن التزام واحترام لاتفاقية 1969، لكنه كان ينتظر أن تتم استشارته قبل وضع ذلك الاستئناف في الأجل القانوني وكان من شأن هذه الاستشارة مع البلد المعني أن تساهم في توضيح أمور كثيرة وأن تجنب في المستقبل زلات من قبيل زلة القضاة الأوروبيين الثلاثة المنتمين إلى السويد واليونان وبلغاريا، ما يعني ابتعادهم عن المغرب والمنطقة المغاربية وجهلهم بما يجري فيها، وتحول دون استمرار مناورات جزائرية مكشوفة باستعمال أدوات مسخرة في تسميم العلاقات المغربية-الأوروبية، خصوصا وأن الأوروبيين يعرفون حق المعرفة أن النظام الجزائري المريض يرغب في تعميم الفشل من حوله ليشعر أنه ليس النظام الوحيد الفاشل والمهدد لبلاده بأسوأ المآلات.
ولا يخفى على الأوروبيين أن ليس لهم حق في التدخل في الشأن الداخلي المغربي ولن يسمح لهم بذلك بالمحكمة الأوروبية وغيرها، وهذا ما لا يفهمه بعض من ينصبون أنفسهم أوصياء على العالم في أوروبا لهم حق التدخل في كل شيء. فإذا كانت الأوطان تتجه للزوال في إطار الاتحاد الأوروبي، وإن كانت المقاومات متعددة حد توليد التطرف، فإن الأوطان خارج الفضاء الأوروبي تظل قائمة وبناؤها متواصل وتشكل الإطار الذي بدونه تنعدم إمكانية بناء التنمية والديمقراطية. والمغرب ليس دولة طارئة ناتجة عن الخرائط الاستعمارية مثل دول أخرى وتاريخه معروف في أوروبا وغيرها، ومعروف كذلك ما جناه عليه الاستعمار الذي اقتطع أجزاء من أراضيه بعدما سعى من قبل إلى تقطيع أوصاله وتقزيمه.
إن تنفيذ حكم المحكمة الأوروبية، كما يعرف ذلك الأوروبيون، ستكون نتيجته انهيار البناء الذي حرص المغرب وحرص عقلاء أوروبا عليه ليس منذ 1969، حين تم التوقيع على أول اتفاقية تجارية بين المغرب والمجموعة الاقتصادية الأوروبية بأعضائها الستة وقتئذ، بل قبل ذلك وبعد ذلك أيضا. وعلى عكس ما يعتقده بعض الجاهلين بمسار العلاقات المغربية –الأوروبية مما يجرهم إلى حسابات تافهة تفتقد للوعي الوطني والاستراتيجي ولعزة النفس، فهذه الأزمة ليست الأولى من نوعها بين الطرفين والمغرب لم يخرج خاسرا من أي أزمة سابقة، وكانت الخسارة أوروبية بعد وقف العمل باتفاقية الصيد البحري لسنوات على سبيل المثال وعودة العمل بها كان تصرفا نبيلا تجاه الجار الإسباني الذي كان الأكثر تضررا.
وعلى فرض أن المعادين للمغرب أفلحوا في الوصول إلى مآربهم، فإن المغرب لن يكون الخاسر الأكبر بل العكس، إذ أن المغرب يظل الطرف الخاسر منذ دخول اتفاقية الشراكة بين المغرب والاتحاد الأوروبي سنة 2000، حيث ارتفع عجز مبادلاته التجارية مع هذه الجهة من العالم باستمرار منذ ذلك الوقت ليزيد بما يقارب 50 في المائة منذ ذلك الوقت، وهذا العجز يصل إلى بضعة ملايير من الأروهات، ما يعني أنها تتجاوز بكثير مساعدات الاتحاد الأوروبي التي لا تتجاوز 500 مليون أورو على مدى ثلاث سنوات ولا تمثل إلا نسبة ضئيلة من المساعدات الدولية والتحويلات الخارجية التي يتلقاها المغرب سنويا. وهي تطرح اليوم جملة من الإشكالات التي لا يتسع مقال سريع للخوض فيها.
وعدا ذلك، فالعلاقات المغربية-الأوروبية التي تتم في إطار التعامل مع السياسات الأوروبية المشتركة، ومن بينها السياسة الزراعية الأوروبية المشتركة (باك) الحمائية، لا تلغي العلاقات الثنائية التي تربط المغرب بعدد من الدول الأوروبية في العديد من المجالات والتي تؤطرها اتفاقيات ثنائية ذات طابع استراتيجي أو اتفاقيات خاصة تهم مجالات أو مشاريع محددة.
وفيما يخص مبادلات المغرب التجارية المختلفة، بما فيها ما يتعلق بالمنتجات الفلاحية ومنتجات الصيد البحري، فإن الأسواق غير الأوروبية مفتوحة أمامها اليوم وتنويع الأسواق يكتسي أهمية استراتيجية، رغم أن السوق الأوروبية تبقى أول سوق عالمية، ويسمح باكتساب تقاليد تجارية جديدة وتطوير منتجات جديدة بدل البقاء في إطار قسمة واختصاصات وتقاليد معرقلة للنمو والتنمية. وفيما يتعلق بالتمويلات الأوروبية كذلك، فإنه يمكن الاستعاضة عنها بغيرها متى كان هناك من يحاول استعمالها لابتزاز المغرب.
إن مسايرة مؤسسات الاتحاد الأوروبي للوبيات ترغب في إلحاق الأذى بمصالح المغرب، سواء حركتها الرشوة الجزائرية أو العمى الإيديولوجي أو المصلحي أو الجهل بالحقائق والمعطيات في منطقة شمال إفريقيا، أو ترغب في رؤية اللاإستقرار والخراب معمما في الخريطة العربية لا يمكن قبوله من طرف أي مغربي له إحساس بالانتماء الوطني ووعي بمصالح المغرب والمغاربة وبالحرب المعلنة ضد المغرب في أوروبا وغيرها بهدف إفشال مسعاه تسريع وتيرة تنميته واللحاق بالدول الصاعدة ، وهي حرب لا يخفي النظام الجزائري الأهداف المتوخاة منها، بعدما كبر ميله الهيمني نتيجة ارتفاع مداخيل الريع البترولي والغازي وصار مرضيا، لكن تلك المداخيل اليوم تتناقص وتتآكل بسرعة وتهدد الجارة الشرقية بأزمة خطيرة باتت تشكل كابوسا للأوروبيين كما نقلت ذلك جريدة الفيغارو في الأسبوع الماضي.