الأخبارثقافةمستجدات

في رحاب الحاضرة الفرنسية لتاريخ الهجرة.. الماريشال اليوطي وتدويناته عن المغرب

الخط :
إستمع للمقال

“المهاجر لا يحمل مجرد حقائب أسفار وإنما يحمل أفكارا كذلك”، بهذه العبارة المُنصفة للإنسان المهاجر، تستقبلك الحاضرة الفرنسية لتاريخ الهجرة التي فتحت أبوابها بباريس قبل عشر سنوات (22 يوليوز 2008) كواحدة من المعالم العالمية الكبرى التي تحيلك فضاءاتها الرحبة على تاريخ الحضارات الإنسانية القديمة الإفريقية والمصرية والآسيوية.

في أول لقاء له مع الحاضرة يتردد الزائر في تحديد خريطة تجواله طالما أن رحابة الفضاء وحشود الزائرين وتنوع التحف والرسومات، تجعله يتيه بين الفناءات المتداخلة في غياب دليل أو مرشد يسهل عليه فهم عوالم الحاضرة وأسرار الكائنات الموجودة بداخلها.. في المدخل بوابة نحاسية عريضة نقشت عليها حروف ورسومات لا يملك الزائر من مفاتيح الانصهار في دلالاتها سوى الاستعانة بإحدى المضيفات التي تشرح بابتسامة وضاءة أن الرموز وهي من وحي اللغة اليمنية القديمة، لغة مملكة سبأ، تعني “مرحبا بكم في دنيا الهجرة”.

على يمين بوابة المدخل رتبت الحاضرة مكتبا للماريشال اليوطي، المقيم العام الفرنسي بالمغرب (1912 ـ 1925)، بتحفه ولوازمه المختلفة وبعض الكتابات والنصوص التي دونها خلال مقامه بالمغرب وجولاته بتونس والجزائر وبعض البلدان الإفريقية.. ويقول عن المغرب: “لقد حكمت المغرب بفضل سياستي الإسلامية، وأطالب بإلحاح أن لا يأتي أحد ليفسد علي لعبتي”. وأساس هذه السياسة، كما يقول، هو “الاحترام والتوقير للمغاربة ولعاداتهم المحلية ولمؤسسات حكمهم ومؤسساتهم الاجتماعية التقليدية من قضاء وأحباس وتعليم”.

وأنا بصدد تدوين بعض أقواله، وجدتني متوغلا في عمق الدار البيضاء وتمثال الجنرال المنتصب قبالة بنك المغرب، متسائلا عما إذا كان في بعض جوانب الاستعمار إرث مشترك يمكن أن تتقاسمه الأجيال اللاحقة بعد أن يسهم التفاعل الخصب في إقبار تلك الترسبات التاريخية من النزعة الاستعلائية الاستعمارية، ويكرس الهجرة كجزء من نسيج المجتمع الفرنسي وكعامل للإثراء والتعايش بدل الإقصاء والتصادم.

قبالة المكتب، خرائط عريضة تختزل بالأرقام تاريخ الهجرة نحو فرنسا من جميع بقاع العالم وخاصة من بلدان المغرب العربي في مطلع الستينات، بعدما كانت فرنسا في حاجة ماسة إلى المهاجرين. وتُبين الخرائط أن فرنسا تأتي في المرتبة الرابعة بعد أمريكا وألمانيا ثم بريطانيا في استضافة المهاجرين. ويعود تاريخ الهجرة بها إلى سنة 1891، حيث كانت وجهة للإيطاليين والإسبان والهولنديين والبولونيين… فهي بلد الهجرة بامتياز وبلد التوترات الاجتماعية أيضا في غياب قوانين تضبط الهجرة بشكل يراعي التنوع والاختلاف.

وبرواق غير بعيد، تطالعك تحف وصور للمهاجرين الأوائل من المغاربيين وهم يحلون على متن بواخر عند الموانئ الفرنسية للذهاب بعدها إلى المزارع وأوراش البناء وأعماق المناجم. وتحيلك الصور على مآسي الهجرة السرية التي تأخذ أبناء المغرب في مغامرات حياتية غالبا ما تنتهي بالرحيل الأبدي ففي أعماق البحر. وفي قاعة لا تتعدى مساحتها بضعة أمتار مربعة، نجح واضعوها في إعطائها طابع سينما مصغرة تستعرض مشاهد عائلات مغاربية في دنيا الاغتراب بهمومها ومشاكلها وبحمولات ثقافية واجتماعية متشابكة.

وتختزل الحاضرة بمتاحفها وأروقتها المختلفة، قرنين من الهجرة بتداعياتها المختلقة من الهجرة الفكرية إلى اللجوء السياسي فالتجمع العائلي والهجرة السرية إلى ما تسميه بعض النخب الفرنسية اليوم نقلا عن الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، بالهجرة الانتقائية. وفي كل فصول الهجرة تظل فرنسا المستفيد الأول، ثقافيا من خلال إسهامات الأجناس البشرية الأخرى في الإشعاع الفكري الفرنسي (رواية، مسرح، شعر، فنون مختلفة…) واقتصاديا عبر استثمارات واسعة تضع فرنسا في المرتبة الثالثة اليوم بعد الولايات المتحدة والصين، واجتماعيا من خلال التمازج الخصب وتلاقح العادات وأنماط العيش المختلفة.

وما يحتاج أن يدركه الفرنسيون هو أن الهجرة قيمة اجتماعية وثقافية مضافة، وأن المرء قد يعجب بأفكار “روسو” و”مونتسكيو”، وبمبادئ فرنسا “حرية ـ مساواة ـ أخوة” دون أن ينسلخ من جلده أو يتخلى عن جزء من هويته. لقد أصبح ابن المستعمرة والمهاجر الأمي مواطنا وإنسانا متعلما، رضع حليب الثقافة الفرنسية بالتأكيد لكنه أدرك نسبيتها، وعرف ما يأخذ منها وما يترك. وهذا يقودنا إلى القول إن أعمال العنف التي تطفو بين الفينة والأخرى في أكثر من منطقة فرنسية، مردها في معظم الأحيان إلى فشل حكومات فرنسا المتعاقبة من أن تجعل الشعار الذي قامت عليه ثورتها واقعا معيشيا بدل تركه منذ أكثر من قرنين من الزمان مجرد ترف فكري تنظيري لا يتحقق أو لا يراد له أن يتحقق بتعبير أدق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى