فرنسا.. هجوم كاسح على الذبائح وفق الطريقة الإسلامية مع اقتراب عيد الأضحى
بعدما اعتدى على حرية الملبس، وحرية التعبّد وأماكن العبادة، قرر اليمين المتطرف الفرنسي إثارة جدل جديد بمهاجمته، قبل أيام قليلة من عيد الأضحى، اللحوم المذبوحة وفقا للشريعة الإسلامية، من خلال رفع شكاية ضد انتشار اللحوم “الحلال” في بعض الأسواق الفرنسية التي لا تبيع، حسب زعمه، “سوى اللحوم المُستقدمة من مذابح حلال”.
ورأت زعيمة “التجمع الفرنسي”، مارين لوبن، انتشار اللحوم “الحلال” فى الأسواق الفرنسية، نوعا “من النصب في المنتجات، غير مكترثة ببيان وزارة الفلاحة التي نفت بشكل لا لبس فيه أن تكون اللحوم المتداولة في فرنسا معظمها مذبوحة على الطريقة الإسلامية، فيما اعتبرت الشركة الوطنية للحوم كلامها بأنه “يكتسي بُعدا سياسيا ليس إلا”.
أما الرابطة الفرنسية لإنتاج اللحوم، فقد أكدت على أن معظم اللحوم المتداولة في فرنسا (90%)، ليست قادمة من الذبائح على الطريقة الإسلامية. كما أعربت عن دهشتها كون حزب مارين لوبن، الذي كان اسمه من قبل “الجبهة الوطنية، لم يتطرق في شكايته إلى اللحوم المذبوحة على الطريقة اليهودية “كاشير” وهي موجودة بكثرة في باريس وباقي المدن الفرنسية.
وكان نيكولا باي، الشخصية النافذة في اليمين المتطرف، أول من فجر قبل أسبوعين، قضية اللحوم الحلال برفعه شكاية لدى الشرطة ضد بعض المطاعم لانتهاكها، على حد قوله، مبدأ المساواة بين الزبناء، واقتصارها على بيع اللحم الحلال في بعض فروعها، دون غيرها من اللحوم وخاصة لحم الخنزير.
وملخص الشكاية أن هذه المطاعم مُجبرة على بيع كل أنواع اللحوم، وليس فقط اللحوم المذبوحة لخدمة جالية معينة، إسلامية أو يهودية. كلام نيكولا باي المتماهي مع تيارات سياسية أخرى، لا يولي أي اعتبار، من خلال تغذيته ضجة اللحوم الحلال، لحقيقة مفادها أنه لا يوجد ما يلزم مطاعم فرنسا أو غيرها من مطاعم العالم بتقديم منتجات تجارية بعينها للزبناء. ويجهل، بل يتجاهل أنه وبهذه الطريقة نفسها انتشرت مطاعم “الكاشير” في مناطق الكثافة اليهودية، ومطاعم “سباغيتي” في مناطق الكثافة الإيطالية… ومطاعم وجبات الأرز في المطاعم الصينية. ولعل من فضائل النِّعم والثقافات المطبخية على البشر، أن الأكل بمختلف أشكاله، وإن كان ضرورة عالمية مشتركة، إلا أنه ليس قناعة عالمية موحدة. فالمرء وهو يبحث عن تلبيته حاجياته الغذائية، يجد أمامه خيارات مختلفة: عجائن، خرفان، أسماك، دجاج، كسكس، خنزير، حلال…، فيشعر بحرية في أخذ ما يبتغيه من وجبات، وهي حرية توازي حريته في التعبير وفي الرأي وفي الاختلاف أيضا.
هكذا ينتقل العداء لمسلمي فرنسا، إلى الأكل الحلال لتكريس مظاهر التحقير للمسلمين، وإنكار حقهم في إثبات ذواتهم من خلال جغرافيا مسلمة، تبني وجودهم على أساس التميز الإسلامي. فما الذي أصاب بعض الساسة الفرنسيين لفتح ملف الأكل الحلال، على مقربة من عيد الأضحى، والنظر في صحن الآخر وما يفترض أن يكون فيه، بعد أن اعتدوا على حرية الملبس وحرية بناء أمكنة العبادة والشكل الهندسي للمكان.
وما الذي فعله مسلمو فرنسا ليصابوا في كل مرة بصدمة جديدة؟ فبعد منع الحجاب في المدارس والجامعات، وبعد الاعتداءات المتكررة على الإسلام ورموزه من مساجد ومكتبات ومقابر، يأتي الدور اليوم على الذبائح الحلال لتكريس معاني التحقير للمسلمين.
وليس من الجائز في شيء، أن يثير البعض في مجتمع ليبرالي، كما هو حال المجتمع الفرنسي، حق مؤسسة تجارية في اختيار البضاعة التي تبيعها. وليس كذلك من حق أية مؤسسة حكومية أو اقتصادية، أن تمنع تجارة خاصة باللحم الحلال، في وقت تسمح فيه بمطاعم سباغيتي، ومطاعم مختصة في الخنزير، ومطاعم كاشير وغيرها.. ففي المطعم الصيني على سبيل المثال، لا يوجد تمييز غذائي يُحرج الزبون مرتبط بغياب الخبز، كما أنه في المطعم الإسلامي لا يوجد تمييز يُغضب الوافد مرتبط بعدم وجود لحم الخنزير. فحينما يرفض المطعم تقديم أكلة متوفرة لديه، لزبون معين، فإنه يمارس بحقه تمييز صارخ، ولكن في غياب الأكلة في الأصل، في المطعم، فلا يوجد أي رفض، وبالتالي لا يوجد أي تمييز.
ومن هنا فإن الضجة المفتعلة ضد بيع اللحم الحلال للمسلمين، وعدم بيع لحم الخنزير، هدفها الوحيد تضييق الخناق على التميز الإسلامي الذي تجاوز البعد الديني ليأخذ أبعادا اجتماعية وثقافية واسعة في بلد يمثل أكبر سوق للحم الحلال في أوروبا، وزاد استهلاكه في العشر سنوات الأخيرة بنسبة 10 %، حسب آخر دراسة تم نشرها بمناسبة المعرض الدولي للتغذية بباريس في شهر مارس الأخير. وتقدر مبيعات اللحوم الحلال في العام بنحو 450 ألف طن وبمبلغ إجمالي يفوق سبع مليارات أورو سنويا.
والحقيقة أن فشل الطبقة السياسية اليمينية المتطرفة في كسب التأييد الشعبي لموقفها الناقم على الهجرة، جعلها توجه أنظار الفرنسيين والأوربيين بشكل عام، نحو الإسلام والإرهاب على اعتبار أنهما العدوان الجديدان، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو. ويمكن القول إنها حققت بعض النجاح في هذا الاتجاه، حيث العديد من الساسة والإعلاميين الفرنسيين المحسوبين على التيار الاشتراكي نفسه، بدأ ينتابهم القلق من الحضور الإسلامي، حتى وإن كان هذا الحضور منفتحا على علمانية التي تشغل الضمير الفرنسي منذ قرن ويزيد.