فرنسا-المغرب.. كيف يتداخل البعد السياسي بالثقافي والاقتصادي ضمن نسيج من المصالح والامتيازات المشتركة؟
في تأكيد الدوائر الرسمية الفرنسية على “الطابع المتميز” للزيارة المرتقبة للرئيس إيمانويل ماكرون للمغرب، وعلى الروابط المتينة القائمة بين البلدين، والإرادة المشتركة لتقويتها في كل المجالات، ما يفيد بأن فرنسا الوسطية، كما فرنسا اليمينية وفرنسا الاشتراكية، لن تزيغ أبدا عن المحددات التقليدية لسياستها الخارجية التي تجعل من المغرب نقطة ارتكاز أساسية، في نفوذها بمنطقة المغرب العربي ومنطقة الشرق الأوسط، حيث المملكة المغربية لعبت على امتداد عقود، دورا تواصليا هاما بين فرنسا والوطن العربي.
وفي إشادة ذات الدوائر أيضا، بمسلسل الإصلاح الديمقراطي والاقتصادي والاجتماعي الذي انخرط فيه المغرب، و”وقوف فرنسا إلى جانبه في المسار الذي اختاره لتحديث الاقتصاد وتكريس دولة القانون”، ما يرسخ القناعة بأن فرنسا (يمينية كانت أم يسارية)، تنظر إلى المغرب كمجال طبيعي لحضورها السياسي والاقتصادي والثقافي في إفريقيا والمغرب العربي، بل تعتبره واجهتها الخلفية وهي مستعدة لخوض أية معركة، من أجل إبقائه ضمن شركائها المُميزين، حتى لو كان المنافس من حجم الولايات المتحدة التي تبحث عن موطئ قدم لها، داخل دولة تستمد أهميتها الجيوـ إستراتيجية من موقعها كبوابة لإفريقيا، ومن روابطها القوية مع منطقة الشرق الأوسط.
ومن سمات العلاقات بين البلدين أنها تتداخل فيها الأبعاد السياسية والاقتصادية والأمنية بأخرى ثقافية واجتماعية، ضمن نسيج من المصالح والامتيازات المشتركة. وقد لخص الراحل عبد الرحيم بوعبيد، الاشتراكي الحاذق، الحضور الفرنسي القوي بالمغرب بقوله في حديث لصحيفة “لوفيغارو” :”لقد اشترت فرنسا كل شيء…ولا من بضاعة أو مؤسسة فلتت من قبضتها”.
وفي كلام الراحل بوعبيد، مهندس سياسة المغرب الاقتصادية في بداية الستينات، جانب كبير من الصواب، حيث فرنسا لم ترحل في واقع الأمر عن المغرب بعد إعلان استقلاله، بل وجدت فيه أرضا حبلى بالفرص الاستثمارية التي لا تحتاج أموالا ضخمة، بقدر ما تعتمد على الخبرة للاستثمار والربح السريع. ففرنسا ومعها أوربا بشكل عام هما من الناحية الاقتصادية، أول شريك تجاري للمغرب بنسبة 65 % من مجمل مبادلاته التجارية، وفرنسا تتقاسم مع إسبانيا المرتبة الأولي في الاستثمارات الأجنبية، وهي إلى جانب ذلك أول مُقرض وأول مانح. وتحتل فروع كبريات البنوك الفرنسية العديد من شوارع الدار البيضاء والرباط ومراكش، وشركة “فيفاندي” الفرنسية هي التي فازت بأكبر صفقة في تاريخ الاتصالات بالمغرب، من خلال فوزها بنسبة هامة من أسهم اتصالات المغرب، فيما تعتبر شركة “أكور” الفرنسية إمبراطورية سياحية داخل المملكة، وشركة بويغ هي الأولى في مجال البناء، بعد أن فازت بصفقة بناء مسجد الحسن الثاني، وصفقة بناء ميناء طنجة المتوسطي، ومن المتوقع أن تفوز بصفقات أخرى قادمة. أما شركة “دانون” فظلت تسود بلا منافس في السوق المغربية لعدة عقود.
تلك هي الوضعية الاقتصادية التي يحرص ساسة فرنسا على تقويتها في مواجهة الزحف الاقتصادي القادم من الولايات المتحدة، التي تحفزت منذ بدء حملتها على الإرهاب، لتكون فاعلا سياسيا واقتصاديا ناشطا في المغرب.
وإذا كانت فرنسا تُسلّم اليوم باستحواذ واشنطن على مجمل المنطقة الشرق أوسطية التي لا تعتبرها حاليا من أولوياتها الجيوسياسية والاقتصادية، فإنها لن تقبل، مهما كلفها ذلك، بأن يكون لواشنطن نفوذ قوي في منطقة المغرب العربي الذي تعتبر الرباط محوره الرئيسي.
ومن هنا، فإن الحفاظ على المغرب ومن خلاله على منطقة الغرب الإفريقي، دفع بفرنسا انطلاقا من أواسط الثمانينيات إلى لعب وظيفة “محامي المغرب” لدى الاتحاد الأوربي. وهي تريد الإبقاء عليه دولة فرنكفونية إن أرادت الحفاظ على مصالحها الثقافية والاقتصادية. ثم إن المغرب بالنسبة للدبلوماسية الفرنسية وحتى الأوربية، هو المجال الجغرافي الأنسب لتأمين الامتداد الطبيعي لأوروبا نحو إفريقيا، وهو من يمتلك مفاتيح استقرارها وأمنها باعتباره الشريك الأساسي في محاربة الإرهاب والهجرة السرية والمخدرات..
وقد ألقت فرنسا بكل ثقلها ليحصل المغرب على ميزة “الوضع المتقدم” في الاتحاد الأوربي، كضرورة أوربية ملحة، وليس فقط شهادة حسن السيرة، توشح به أوربا صدور من نجحوا في الإصلاحات الديمقراطية والمؤسساتية. وحتى العضوية المغربية في أوربا، المرفوضة حاليا من الوجهتين السياسية والجغرافية، ستصبح ممكنة حينما تستوجب المصلحة الأوربية ذلك. وليس اعتباطا أن طلب الملك الراحل الحسن الثاني في بداية الثمانينات من الرئيس ميتران، انضمام المغرب إلى الاتحاد الأوربي، حتى وإن كان الغرض من الطلب هو فقط التدشين لمرحلة ستأتي لا محالة، حينما تنضج الثمار السياسية لذلك…وربما بدأت الثمار تنضج في الآونة الأخيرة، بعد أن تعالت أصوات أوربية تنادي باتحاد أوربي من القطب الشمالي إلى الصحراء.
ثم إن الشروع مستقبلا في بناء نفق بمضيق جبل طارق، لتأمين مرور أزيد من خمسة ملايين مغاربي، أي أكبر هجرة موسمية في العالم، قد يؤدي إلى تقوية حظوظ المغرب في الانضمام في المستقبل غير البعيد ربما إلى الاتحاد الأوربي بدل الاكتفاء بالوضع المتقدم.
والحديث عن تواجد فرنسي قوي في المغرب اقتصاديا وثقافيا، لا يعني خلو العلاقات من أزمات بين الفينة والأخرى. غير أن هذه الأزمات أو المعوقات الدبلوماسية التي تطفو على السطح، ليست سوى تجليات اعتراضية لا تأثير لها على صلب الروابط القائمة بين البلدين منذ قرون.
وهاجس باريس في أن تتخلى عنها الرباط باتجاه واشنطن ليس له ما يبرره في الواقع الجيوسياسي الراهن. فلا مجال للتخوف من موقف مغربي ميال أكثر لواشنطن حتى وإن حظي المغرب في العقد الأخير باهتمام أمريكي متزايد توج بإبرام البلدين اتفاقية للتبادل الحر تزامنت مع تسلل عدة شركات أمريكية بعد نجاحها في الحصول على امتيازات اقتصادية بدءا من توريد المعدات العسكرية إلى قطاعي الطاقة والفلاحة والصيد البحري وغيرها. فالتدافع الأمريكي باتجاه المغرب في المجالات الاقتصادية (اتفاقية التبادل الحر) والسياسية (دعم موقف المغرب في الصحراء) والأمنية (التعاون في مجال مكافحة الإرهاب) لا يجب أن يثير، مهما كان حجمه، مخاوف الفرنسيين من أن تخرج الرباط المحسوبة على خطّ الفرنكفونية من قبضتهم، ذلك أن شعلة العشق بين المغرب وفرنسا هي اليوم ضرورة إستراتيجية تمليها مصلحة البلدين، وأيضا شروط الأمن بمنطقة يهددها شبح الإرهاب، ويؤرقها نزاع الصحراء الذي دام زهاء نصف قرن.