الأخبارركن الميداوي

عبد الوهاب الدكالي.. من حفل تكريمي بما يقتضيه من هيبة وجدارة إلى لقاء ارتجالي تبخيسي لأعماله

الخط :
إستمع للمقال

حفل تكريم الهرم الموسيقي، عبد الوهاب الدكالي بالعاصمة الإسماعيلية، مكناس، كان سيترسخ كمبادرة غير مسبوقة في سجل حفلات التكريم بالمدينة، بما يعنيه التكريم من معاني سامية ترسّخ قيم التقدير والامتنان، لواحد من عمالقة الموسيقى المغربية والعربية، الذي اكتسح قلوب الجماهير بروائعه الجامعة بين الكلمة واللحن والأداء، وظل يراكم أعماله في مسيرة فنية زاهرة دامت زهاء ستين سنة.

المبادرة كانت ستكتسي طابعا متفرّدا يليق بالرجل الذي أغنى الخزانة الغنائية المغربية والعربية، بسيل جارف من الأعمال الرائدة في كل الأجناس الإبداعية، لو أن الجهة المنظمة، أي جمعية “كاليمار”، أمعنت النظر جيدا في طريقة وأسلوب تنظيم حفل التكريم، وبرْمجت له بعين الدارس المحترف لكل تفاصيله وجزئياته، بدءا من زمانه ومكانه إلى طبيعة المشاركين والمدعوين، من ذوي الاختصاص من أصدقاء المحتفى به، ومن نُقاد واكبوا مسيرة الدكالي الفنية طيلة أعوام.

ومن دون مراعاة العناصر الزمكانية، أو ما يطلق عليه بالأنجليزية spacetime ، والأخذ بالاعتبار طبيعة المدعوين من ذوي الاختصاص، ممن يُتحفون مسامع الحضور بينبوع متدفق من الأخبار والنوادر عن المحتفى به، والمسار المتفرد الذي أوصله إلى قمة الإبداع والتألق، فإن حفلات التكريم، أيا كان نوعها، لن تصل إلى أكثر من وهْمِ الامتنان والعرفان، والركوب عليه لتلميع الصورة الباهتة للجهة المنظمة.

ومن هنا فإن تحديد يوم الاثنين، أي بداية الأسبوع وليس نهايته، كيوم لاحتضان الفنان المبدع، عبد الوهاب الدكالي، والاحتفاء به، هو توقيت غير مألوف في حفلات التكريم، وقد يكون خارجا عن إرادة جمعية كاليمار، التي لا تملك بحكم إمكانياتها المحدودة أو المنعدمة، خيار تحديد الحيّز الزمني، والفضاء المكاني الأنسب لاستقبال ضيوفها، فيما المجالس البلدية والجماعية، تدير ظهرها بالمرة لمثل هذه التظاهرات، حتى وإن تعلق الأمر بالرجل الذي فتح له البابا، بنديكتوس السادس عشر، قصر الفاتكيان، الجامع بين أرقى فنون النحت الكلاسيكي، اليوناني والروماني، في حفل تكريمي بهيج، مَنحه خلاله دكتوراة فخرية مزينة بصورته، تكريما لمسيرته الفنية الجياشة بالعطاء، وتقديرا لالتزامه بالقضايا الإنسانية المتجلية في دعوته لمجموعة من الفنانين العرب مشاركته في أداء أغنية “ما بغينا حرب” التي تنشد السلام.
قد يكون التخبّط في اختيار التوقيت والمكان، مردّه إلى عدم لجوء جمعية “كاليمار”، لمفاتحة المجلس الجهوي أو جماعة حمرية بالحدث، وبإمكانية احتضانه بشكل تشاركي، لما تكتسيه العملية التشاركية من عنصر إطراء وتشجيع لثقافة التكريم، التي يجب أن تحافظ على هيبتها وجدارتها وتميُّزها. وقد تكون عملية تحييد المجلس، سببها ما يروج عن “العمى الثقافي والفني” الذي يحجُب عن بعض القائمين على المجلس، رؤية القيمة الدلالية والإنسانية المتمثلة في استضافة من اختير أفضل شخصية فنية في العالم العربي عام 1991.
وفي ظل الغموض والارتباك، اهتدت “كاليمار” في خطوة ارتجالية تقزيمية للموسيقار المحتفى به، إلى حيّز ضيق في قصر التراب لإقامة حفل تكريم، من دخل قلوب الناس من أولى أغانيه إلى أخرها.
العنصر الثالث ويشكّل أشقى الارتجال وأتعسه، ونعني به شهادات المدعوين من أصدقاء ونقاد فنيين، الواجب استقدامهم في مثل هذا الحفل، لإتحاف الحضور بالمسار المتفرد لعملاق الأغنية العربية، وجميعهم غائبون عن الحفل، يملأ كراسيهم أصدقاء “كاليمار” على قلتهم. وهنا يبدأ العدّ العكسي التنازلي الذي سيحوّل المناسبة من حفل تكريمي، يقتضي الإدلاء بشهادات وافرة في حق المحتفى به، إلى حفل تبخيسي لمسار وأعمال الرجل، (من غير قصد)، وكأن لا قيمة لمسيرته الفنية، إلا ما ورد على لسان مُقدمة الحفل، من نبذة قصيرة شحيحة، مأخوذة من الكتابات التي تناولت سيرة عميد الأغنية المغربية.

لا أحد من أصدقاء الفنان من جيله أو الجيل الذي أتى من بعده، دُعي لإبداء الرأي في التنقلات المضنية للفنان بين الزوايا المختلقة في المكان، قادته إلى المشرق العربي، وقرر خلالها توطين مرسمه بالقاهرة، بعد جولات كوسموبولية بين دمشق وبيروت والعاصمة المصرية.

لا أحد من النُّقاد الذين واكبوا مسيرة الموسيقار حضر الحفل، لإتحاف مسامع الحضور بالأجناس ألفنية التي أبدع فيها الموسيقار بدءا من الحماسة ” فرسان قريتي عادوا” و “حبيب الجماهير”، والعلاقات الاجتماعية “أجي نتسالموا”، “أنا مخاصمك” و”حجبوك العدا”، وفي الهجرة “أنا والغربة” و “وحداني”، وفي السرد الغنائي “الدار لي هناك” و”كان يا ما كان” ” و”النظرة فتناها”، وفي السلام ونبذ العنصرية “مرسول الحب”، و”مونبرناس” و”سوق البشرية”، وغيرها من الأغاني المفعمة بالعذوبة، وبالأداء المتميز للفنان الذي تمكن بعد عقود من العطاء الفني من أن يسجل اسمه في كاتالوغ كبار المبدعين العرب من حيث غزارة اللحن وجودة الأداءً.

كل مستلزمات التكريم كانت غائبة في الحفل الباهت الذي نظمته جمعية “كاليمار”، لمطرب الأجيال، بشكل ارتجالي، عشوائي، خلّف الكثير من التقزز والحسرة في نفوس المكناسيين، الذين تتبعوا بشيء من التأسف الممزوج بالامتعاض، وقائع الحفل وما ساده من اختلال وتخبّط، أفرع المبادرة التكريمية من رسالتها القاضية بتكريس معاني الامتنان والتقدير الكبيرين، لرائد الأغنية المغربية الذي غنى كل الألوان، بإحساس صادق وبحسّ رهيف.

أفة “كاليمار” ومعها المقهى الثقافي لمكناس، أنه على درب التحول من متنفس تأملي حواري، يجمع بين كل شرائح المدينة، المختلفة في انتماءاتها، والمتلاقية في تطلعاتها الثقافية والمعرفية، إلى تجمّع للسهرات الغنائية البخسة التي تعطي للمقهى بُعدًا شعبويا مختلفا عن المقاهي الثقافية الجديرة بهذه الصفة. ففضاء السهرات وحفلات الأعراس، وما إلى ذلك، لا يليق بتسمية المقهى الثقافي، الذي وأنت بداخله، لا يتيح لك الترويح عن النفس من خلال التفرج على المارة أو على المحلات الأخرى. فهو كما نعرفه في أوربا ومصر ولبنان العريقة في ها المجال، وغيرها، يكون ُمصمّما، في الغالب، بشكل يوحي بأنه ملجأ حواري وتبادلي بالدرجة الأولى، يمتلئ بدفء الرواد الذين ينشئون فيه طقوسا للتجادل في القضايا الثقافية والشعرية والفنية، ويحاولون مع انتفاخ الحديث وانتشاره، بلورة رؤى صغيرة لثقافة يكبر فيها الزخم الفكري التعددي للأشياء..
والمقاهي شكلت منذ عقود جزءا من الوعي الثقافي المجتمعي، يكبر ويصغر بحجم العلاقة بين الفرد والمكان. تكبر هذه الأماكن وتصغر، تمتلئ وتفرغ، تصير مراكز ثقافية أو مجمعات ترفيهية، وتبقى وظيفتها الأساسية في نهاية المطاف، تقديم الحيوات الاجتماعية بزخمها ونشازها وتناقضاتها المختلفة.

ومن هنا يتعين على “كاليمار”، إما السقوط في فخ الاستسهال وفي السهرات الشعبوية المرتجلة، أو التأسيس لنفق تواصلي مع المثقفين يعطي للمقهى الثقافي بُعده وحجمه الحقيقيين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى