شهادات | المهدي المنجرة.. رجل مبدئي رغم الإكراهات والمغريات (4)
في المغرب المعاصر، بصمت مراحله الكبرى عدة شخصيات، منها من غادرنا ومنها من لا زال حيا يُرزق، ومنها من نُسي، لكن المغرب لا ينسى رجاله، ونحن في “برلمان.كوم” نعيد رواية قصتهم بلسان من عاشوا معهم وتأثروا بهم ورافقوهم سواء أكانوا أصدقاءً أو مقربين أو متتبعين لمسارهم، ونسمع منهم شهادات حول شخصيات ظلت راسخة في الذاكرة المغربية.
خلال حلقة اليوم الأربعاء، يتحدث لنا الدكتور محمد الخمسي عن أحد الأعلام المغربية والقامات العلمية التي بصمت اسمها في الريبيرتوار الأكاديمي المغربي، ويتعلق الأمر بالمهدي المنجرة، وهو عالم مستقبليات مغربي انشغل بسؤال “إلى أين نسير؟”، ومدى امتلاك العالم العربي والإسلامي لرؤية مستقبلية.
الدكتور الخمسي، نستحضر اليوم عالم الاجتماع والدراسات المستقبلية المغربي المهدي المنجرة، بالمناسبة كيف تستحضرون ذكراه بعد سنوات من الرحيل؟
لا شك أن المهدي المنجرة رحمه الله، هو رجل مثقف حر، وعالم مستقبليات يومَ كان الاهتمام بهذا المجال قليل جدا، ويمكن أن أقول أنه كان من العقول التي كان لها رؤية واستراتيجية في تطور المجتمعات والحضارات، طبعا كان رجل مبادئ، يقول لا للغرب والشرق، رغم الإكراهات والمغريات، وكان يبحث عن الحكمة والصواب.
المهدي المنجرة رحمه الله، قضى نصف قرن في العلم والعمل والبحث والتحصيل، قضى عمره بين مدرجات الجامعات وأروقة المنظمات الدولية وخبر دهاليزها ومقراتها، وعاش من أجل المبادئ والأفكار الأساسية الكبرى، رجل دعى للحوار بين الشمال والجنوب نظرا للفجوة الاقتصادية والفجوة الإدارية والرقمية والتنموية، حيث كان مُبكرا يقظا لهذا الأمر، فقد دافع عن حقوق الإنسان في بعدها الإنساني والكلي، واكتشف أن علاقة الديموقراطية بالتنمية هي علاقة متلازمة، وبالتالي عندما كان يدعو إلى سياسة واضحة تعتمد على انخراط المجتمع كان يسعى بذلك إلى تحقيق التنمية وكرامة الشعوب، وقد ساعده في ذلك تنوعه اللساني والثقافي وتجربته وانتقاله بين الأمم والدول.
المنجرة، كان رجل حدس وفكر عميق، فقد كان سباقا إلى عنوان قوي وكتب فيه وهو “الحرب الحضارية” سواء الأولى أو الثانية، كما سيأتي بعد ذلك من يستغل هذا العنوان ويحوله إلى “صدام الحضارات”، وبالطبع الماكينا الإعلامية التي كانت وراء صامويل هنتنغتون ليست كالتي كانت وراء المهدي المنجرة، وبالتالي عُرفت الأعمال الأولى بشكل كبير وأعماله الأشد عمقا وتأثيرا ضلت محدودة الأثر والمعرفة.
وقد كان سباقا إلى الإشارة لما يسمى الآن بالربيع العربي، أو الهزات الاجتماعية عموما حيث كان رجل تاريخ وفكر وعلم وحدس، حيث كان يعلم أن الصراعات إذا لم تُحل فهي تُؤدي إلى قلاقل واضطرابات عميقة وقوية عنيفة.
كان المهدي المنجرة من أبرز المدافعين عن التعليم وضرورة إصلاحه، كيف تنظرون لمساره الذي دافع فيه من أجل تعليم مغربي منتج وناجع؟
إن المهدي المنجرة كان حاضرا بقوة في مشروع التعليم، لأنه سافر إلى كثير من الدول واطلع على تجارب تعليم متنوعة، خاصة التجربة اليابانية وقد تأثر بها، وكان يعتبر أن مفتاح المفاتيح للتنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية يمر عبر التعليم وأن الاستثمار الأساسي والملائم والضامن للمستقبل مفتاحه في التعليم، لذا كان ينظر إلى التعليم أنه هو الاستقلال الحقيقي للشعوب، وكان يخوض معركة لا هوادة فيها في ذلك.
طبعا كانت هناك لوبيات، ولا زالت تنظر إلى أن رفع مستوى التعليم وتعميم التعليم يُعطيك شعوبا ذات يقظة عالية جدا، وبالتالي لن تقبل على بياض ما يسمى بالبرامج السياسية، لأن جودة البرامج السياسية تنبع من جودة وعي الشعوب ووعي الشعوب ينبع من مستوى التعليم.
كان رحمه الله ينظر إلى أن الاقتصاد لن يستقل في الدول بدون تعليم، وكان ينظر إلى العلاقة بين الشمال والجنوب قبل أن تكون علاقة اقتصادية اجتماعية فهي علاقة معرفة وعلم، وبالتالي احتكار هذا الشمال للعلم والمعرفة يؤثر حتما على تطور الشعوب ونموها، وكان رحمه الله ينظر إلى أن التعليم هو قرار سيادي ومشروع وطني يجب أن يستنبت من الداخل وأن يكون النقاش فيه في الداخل، لذا كان حريصا في كل محطات حياته على المرافعة والدفاع عن هذا التعليم، وبصْمَتُه وصوته لا زالا حاضرين، بل آراؤه واستيناراته لا زالت حية وقوية.
بعد سنوات من رحيل المنجرة، هل نفتقر في المغرب لعلم المستقبليات ودراسات معمقة وتحليلات في هذا المجال، وهل ترى أن المغرب يتوفر على كفاءات في هذا المجال؟
نحن لا نعاني من قلة الأشخاص في الاهتمام بالمستقبليات والاستراتيجيات بقدر ما نفتقر إلى معاهد ومؤسسات تُعنى بهذا المجال، وكذلك إلى تراكم واحتضان الطاقات الموجودة، وإلى دعمها، والآن المغرب له خزان استراتيجي في مغاربة العالم، الذين يشتغلون في هذا المجال ويهتمون به، وكل من يشتغل في المجال الاستراتيجي قد يُفيد في المستقبليات.
ما نعاني منه هو أننا ليس لدينا مراكز، والمؤسسات الرسمية للدولة لا تلتفت لهذه العقول وهذه القدرات ولا توفر لها الشروط من أجل الاستفادة منها واستخراج قوتها ومعادنها النفيسة، فهذه الكفاءات ثروة وطنية، كونهم لهم القدرة على اختراق الزمن والبحث عن التحولات والتطورات التي ستؤول إليها العلاقات الدولية، وهذا ليس تنجيما وشعودة وليس قولا بدون دليل علمي، فهذه المعارف والعلوم تبنى بهدوء، وهي تقاطعات لعدة خبرات وعلوم أخرى، ولعل من عناصر قوة الولايات المتحدة الأمريكية أن لديها مراكز ومعاهد وجامعات تهتم بهذا المجال، الذي كان المنجرة يشتغل فيه، ولو وُفرت له الشروط وتمت الرعاية به والاهتمام به وعدم تهميشه لكنا الآن أمام مُؤسسة بحجم علم المستقبليات على المستوى الوطني.