اخبار المغربثقافةمستجدات

رواية “القوس والفراشة”.. عندما يصبح البحث عن الذات تائها وسط رماد الخسارة والانكسار (4)

الخط :
إستمع للمقال

شهد الأدب المغربي تطورا ملحوظا في مجال الرواية، حيث برز العديد من الكتّاب الذين أثروا الساحة الأدبية بأعمالهم المتميزة، من بين هؤلاء عبد المجيد بن جلون، الذي يُعتبر من أوائل الروائيين المغاربة في الأدب الحديث، كما شهدت الرواية المغربية تنوعا في المواضيع والأساليب، مع ظهور أعمال تعكس التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية في المغرب.

في هذه الحلقة من السلسلة الرمضانية، سنتناول رواية “القوس والفراشة” للكاتب محمد الأشعري، وهي التي تُعتبر امتدادا لروايته الأولى “جنوب الروح”، حيث ترصد تحولات ثلاثة أجيال من عائلة آل الفرسيوي المغربية، وتتناول قضايا الهوية والتغيرات الاجتماعية في المغرب.

ووسط تقاطعات الأدب والصحافة والسياسة، يبرز اسم محمد الأشعري كأحد أبرز الأصوات في الرواية المغربية الحديثة، شاعر، روائي، ووزير ثقافة سابق، يتقن المزج بين لغته الشعرية العميقة وحنكته السردية ليخلق عوالم روائية تفيض بالمشاعر والانكسارات والأسئلة الوجودية.

في روايته “القوس والفراشة”، الحائزة على جائزة البوكر العربية لعام 2011، يفتح الأشعري نوافذ الحكاية على الألم الإنساني، ويجعل من الفقد والخسارة مدخلا لفهم الذات والتاريخ والمجتمع.

وفي الرواية، استخدم محمد الأشعري مجموعة من التقنيات السردية التي أضفت عمقًا وجمالية على العمل، من أبرز هذه التقنيات توظيف الكتابة التاريخية الذاتية، حيث دمج بين السرد الروائي والتاريخ الشخصي، مما أتاح استنطاق الخراب واستكشاف تأثيراته على الشخصيات والمجتمع.

وتُسلط الرواية الضوء على تناقضات المجتمع المغربي المعاصر، حيث تصف التحولات الاجتماعية والاقتصادية، وتكشف عن الفساد المستشري في مختلف القطاعات، كما تتناول الرواية أزمة المثقف في مواجهة هذه التحولات، وتطرح تساؤلات حول جدوى النضال السياسي والأيديولوجي في ظل واقع متغير.

رواية القوس والفراشة.. حين تصير الحياة سلسلة من الخسارات

تبدأ الرواية بلحظة فارقة، يوسف الفرسيوي، الصحفي اليساري، يتلقى رسالة قصيرة تخبره بمقتل ابنه ياسين في أفغانستان، بعد انضمامه إلى الجماعات الجهادية.

هذا الخبر تفجر كصاعقة في حياته، لم يكن مجرد إعلان موت، بل كان بداية رحلة متاهية في سراديب الذات، بين الانكسار والحنين والبحث عن معنى.

وعبر سيرة ثلاثة أجيال من عائلة الفرسيوي، يرصد الأشعري تحولات المغرب الحديث: من الجد محمد الفرسيوي، الذي هاجر إلى ألمانيا وعاد ضريرا ليحكي أساطير وليلي للسياح، إلى الابن يوسف، الصحفي التائه بين الحانات والمطارات والتحقيقات الصحفية الخطرة، ثم الحفيد ياسين، الذي ضل طريقه في دروب التطرف والجهاد.

الرواية ليست مجرد حكاية عائلية، بل مرآة لمجتمع يعيش في قلب التناقضات، يساريون فقدوا بوصلتهم، إسلاميون عالقون بين الحلم والانكسار، صحفيون يحاولون فضح الفساد، وأفراد يبحثون عن الخلاص وسط عالم يزداد تعقيدًا.

النسيج الروائي.. حين تتقاطع المصائر

يُجمع النقاد على أن الأشعري يتقن تقنية التوازي السردي، حيث تتشابك مصائر شخصيات الرواية في فسيفساء من الخيبات والتساؤلات.

ويوسف الذي يكتب عن الحب في عموده الصحفي لكنه يعيش في فراغ عاطفي، بهية الزوجة التي تنزلق علاقتهما نحو الانهيار، ليلى وفاطمة اللتان تمثلان تعويضا عن الخسارات المتكررة، والأب الأعمى الذي يسكن الخرائب كما يسكن ماضيه.

وفي الخلفية، تحضر السياسة والصحافة والفساد كأبعاد أخرى للحكاية، تحقيقات يوسف حول نهب العقارات في مراكش تضعه في مواجهة مع السلطات، بينما يلاحق ماضيه السياسي ظلال حياته اليومية.

بين القوس والفراشة.. الحياة كصفعة ظالمة

تستلهم الرواية عنوانها من رمزية مزدوجة: “القوس” كأداة توتر وانطلاق، و”الفراشة” كرمز للهشاشة والتحليق نحو المجهول، ففي هذا التناقض، يطرح الأشعري سؤالا جوهريا: هل نحن سجناء الماضي، أم بإمكاننا الانفلات نحو أفق جديد؟

يوسف الفرسيوي، بين انتحار أمه ومقتل ابنه، يبدو وكأنه ضائع بين خيبات متراكمة. يقول في أحد تأملاته: “الخواء يسكنني، لا أحد يملك شيئًا لأحد، ولا أحد يحقق سعادته بسبب الآخرين”.

هذه النزعة الفلسفية التي تتغلغل في النص تجعل منه أكثر من مجرد رواية، بل تأملا عميقا في معنى الخسارة والندم والقدر.

لماذا “القوس والفراشة”؟

إن ما يجعل هذه الرواية استثنائية هو قدرتها على التقاط التحولات العميقة للمجتمع المغربي، ليس فقط عبر السياسة أو الدين، بل من خلال مصائر الأفراد.

وكل من قرأ القوس والفراشة يقول إنها رواية عن الفقد، لكنها أيضا عن محاولات النجاة، عن شخصيات تحاول التشبث بما تبقى لها من ذكريات أو أوهام.

وبأسلوب شعري حزين، ولغة تنبض بالحياة والموت معا، استطاع محمد الأشعري أن يقدم في “القوس والفراشة” شهادة أدبية آسرة عن جراح الذاكرة وارتباك الحاضر، فهي رواية ترغم القارئ على مواجهة الأسئلة الصعبة، تلك التي لا إجابة واضحة لها، لكنها تبقى تحوم مثل فراشة تبحث عن الضوء في آخر النفق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى