الأخبارركن الميداوي

رحلة عبر الزمن الثقافي في عمق باريس، حاضنة الكثير من المتاحف الكونية

الخط :
إستمع للمقال

تزاحُم خفيف تتخلله عبارات الاعتذار المألوفة.. يخرج البعض وقد أروى غليله، ويدخل البعض الآخر حيث المكان مثقل بالصمت.. تختلط الروائح والعطور. تتزاحم القارات والأجناس والطبقات. نسيج غريب من الأشخاص والألوان، يتوافدون كل يوم على هذه الكائنات العتيقة التي نُطلق عليها اسم متاحف. ومن حسن حظي أنني زرتها، هذه المرة، بشكل مُسهب، معزز بالشروح والبيانات، في إطار رحلة ثقافية معرفية، نظمتها مديرية المتاحف بوزارة الثقافة الفرنسية، لفائدة فريق من ممثلي الصحافة الأجنبية المعتمدة بفرنسا.

والحقيقة أن باريس الثقافية تنفرد عن غيرها من العواصم الأوربية والعالمية، بخاصية أنها ليست فقط المركز العالمي الأول للفنون والعطور والموضة، بل هي أيضا مدينة التاريخ والتراث، تأوي وحدها 375 متحفا إلى جانب العشرات من الصروح والمعالم التاريخية.

ولأن الموضة بالنسبة لساسة القرن العشرين، اقتضت أن يصك كل واحد اسمه على صرح من الصروح الكبرى، فإن لكل رئيس متحفه أو معلمته التاريخية : فبعد الرئيس جورج كليمونصو الذي أطلق اسمه على المتحف العسكري، وهو أكبر متحف للأسلحة في العالم، وبعد الرئيس بومبيدو الذي أنشأ مركز بومبيدو للثقافة (أكبر مركز للفن الحديث في أوربا، يستقبل 40 ألف زائر في اليوم )، جاء جيسكار ديستانغ ليشيد متحف أورساي، وهو واحد من أكبر المتاحف في العالم، يستقبل 50 ألف زائر في اليوم، ويضم العديد من المنحوتات، وأزيد من 5.000 لوحة تم رسم معظمها في القرن التاسع عشر. ومن بعده الرئيس ميتران الذي أحدث “خزانة فرانسوا ميتران” (ثاني أكبر خزانة في العالم بعد الخزانة الوطنية البريطانية. وتضم 180 مليون مرجع، و15 مليون كتاب من مختلف التخصصات المعرفية وخاصة الفنون والآداب). ثم الرئيس جاك شيراك الذي أقام متحف لوكي برانلي (1،5 مليون زائر في السنة).
وها هو الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يريد إحداث متحف ماكرون للتاريخ على مساحة 6.000 متر مربع، ناسيا أو متناسيا أن هناك متحفان لتاريخ فرنسا، الأول بالمدخل الرئيسي لقصر فرساي، ويعتبر أكبر متحف للتاريخ في العالم، حيث يمتد على مساحة 18 ألف متر مربع، ويضم أزيد من 8.000 لوحة و1.600 قطعة منحوتة. وقد شيده الملك لوي فيليب سنة 1837 لتخليد كل الأمجاد التاريخية لفرنسا. وهو غير بعيد عن متحف كليمونصو العسكري المُكون من ثلاثة طوابق، ويضم أغنى مجموعة تحف عسكرية في العالم. أما المتحف التاريخي الثاني، فهو متحف نابليون الذي أنشأه نابليون الثالث سنة 1867، ويضم كمًّا هائلا من الوثائق التي تؤرخ لمختلف الحقب والمحطات الهامة في تاريخ فرنسا.

ولا يرى معظم المؤرخين جدوى من إحداث متحف ثالث لتاريخ فرنسا، بل يعتبرون أن النقطة الإيجابية المحسوبة للرئيس ماكرون في هذا المجال، هي قراره إعفاء الشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 سنة، من دفع ثمن تذاكر دخول المتاحف والصروح الأثرية، معللا ذلك بقوله “إن إعفاء الشباب من الأداء لن يقتل المتاحف، بل بالعكس، سيقوي الإقبال عليها لأن الشباب الذين يتعودون على زيارة المتاحف، سيتمسّكون بهذه العادة، عندما يتقدمون في السن”.
وتأوي فرنسا 1.190 متحفا، من بينها 50 من المتاحف الرسمية الخاضعة لمراقبة الحكومة (وزارات الثقافة والتعليم والبحث العلمي والسياحة والداخلية..)، و34 تتمتع بالاستقلال الإداري والمالي على غرار متحف اللوفر، و1.037 تحت الوصاية العلمية والتقنية لمديرية المتاحف، والباقي تابع للقطاع الخاص ولجمعيات مختلفة، تسهر على تدبيرها بما يقدم للزائر صورة شاملة عن الإرث التاريخي الكبير لفرنسا..

ولكل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والفنية، متاحف خاصة بها إلى جانب متاحف متخصصة في اهتمامات معينة، كالبريد والمعادن والصيدلة والألبسة والموضة، وأخرى فريدة بمعروضات تختزل كمّا هائلا من الطقوس والعادات.

فأنت بداخل متحف الطب مثلا، ينتابك الشعور بأنك في العصر الحجري للطب، حيث نظرة سريعة على أدوات الجراحة المستخدمة في العمليات الجراحية في القرون السابقة، تعطيك الانطباع، لولا الكتب والمراجع الطبية المرتبة بعناية بمكتبة الطبيب، بأنك في قلب محل للجزارة مليء بالسكاكين والسواطير ومناشير للعظام.

أما متحف الشرطة الذي يحتل طابقين في شارع سان جرمان الباريسي، فيقدم عجائب الأحداث والجرائم الغامضة التي هزت باريس وفرنسا في أزمنة مختلفة، وصور للمجرمين الكبار، وأخرى للمسروقات الثمينة التي تم العثور عليها، مثل عقد ماري أنطوانيت، نجلة الملك فرانسوا الأول، وصور لأشهر المحققين، فضلا عن أجهزة التعذيب، وأدوات الإعدام السابقة، كجهاز المقصلة وحبال الشنق…

وغير بعيد عن متحف الشرطة، يطالعك متحف البريد الذي يقدم قائمة بأسماء سعاة البريد الذين أدوا الواجب في ظروف الحرب والأمطار والثلوج، وتعرضوا لحالات القتل والنهب والسرقة. ومن الأقسام المهمة في هذا المتحف، قسم الحمام الزاجل الذي كان يؤمّن وصول الرسائل حتى في أزمنة الحروب إلى أصحابها.. ثم متحف الشاي الذي يعرض فنون صناعة هذا المشروب في مختلف الأقطار، ومتحف العطور الذي يجد فيه الزائر أنواعا ناذرة من العطور. ويقدم المتحف الذي يحتوي على تشكيلات مختلفة لأواني وقوارير العطور، جردا مفصلا عن الشركات الكبرى المنتجة للعطور. كما يعرض بعض أسرار صناعة العطور والمواد المهمة في تراكيبها…

وتبقى الرحلة طويلة لسبر أغوار كنوز فرنسا المتْحفية، وأهمها متحف البحرية وبه نماذج مصغرة عديدة لسفن ومراكب شهيرة، ومتحف الإنسان الذي يحتوي على مجموعات من التحف الفنية لكثير من الحضارات الأوربية والآسيوية، وكذا متحف السينما، ويشمل آلات التصوير القديمة وأزياء وديكور وبلاتوهات عدد من الأفلام الفرنسية الشهيرة، وهو يتكون من قرابة ستين قاعة مخصصة لصناعة السينما فى فرنسا، ولتاريخ تلك الصناعة. وتضم خزانة المتحف أكثر من ستة ملايين صورة سلبية تعود لكبار المصورين، ومجموعات من تقارير مصورة حول العالم بين 1900 و1930، ومجموعات من 3.000 لوحة (بورتريه) لشخصيات سينمائية وموسيقية وغنائية وأدبية وسياسية… كما يضم مكتبة الصور الثابتة والمتحركة التي تجمع في أرشيفها 76 ألف صورة بالأبيض والأسود، و170 ألف مترا من الأفلام…. وللزيارة بقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى