ربع قرن على الصحافة المجانية.. هزة قوية في المشهد الإعلامي الفرنسي وجنازة جماعية لأعرق الصحف
بينما كانت في بداية نشأتها تقتصر على أخبار قصيرة أغلبها من النوع الطريف، مُرفقة بنشرات إعلانية وخدمات تسويقية متنوعة، أصبحت الصحافة المجانية اليوم، تمارس جاذبية قوية على القراء من خلال التطرق، وبقدر كبير من الاحترافية، لمختلف مجالات العمل المهني من سياسة واقتصاد وثقافة، ومواضيع اجتماعية مختلفة أزاحت من خلالها، نشرا وتوزيعا، أعرق الصحف تجربة ونفوذا في فرنسا، واجتذبت بعد ربع قرن من الصدور، نسبة كبيرة من المعلنين الذين لا يميزون بين القارئ الذي يشتري الصحيفة، عن ذاك الذي لا يدفع ثمنها.
وقد التبست ردود الفعل عند كثير من الفرنسيين يوم 16 ماي 1999، عندما تأبطوا قبل ربع قرن بالتمام، أول جريدة مجانية “ميترو” يتصفحونها دون مقابل.. مواضيع خفيفة وأخبار وطرائف مرفقة بإعلانات بسيطة لكنها أكثرا قربا من اهتماماتهم.. إعلان عن أثاث منزل، رحلات منظمة للمغرب، وصفات غذائية جاهزة، وبين هذا وذاك، إعلانات تجارية لا تخلو طبعا من استغلال جسد المرأة، حتى لو كانت السلعة عن ماركة سيارات.
وقد وضعها الكثير من الإعلاميين آنذاك، في خانة الصحافة الهاوية التي لن تعمر طويلا، كما حدث لِما أطلق عليه بصحافة الرصيف، التي حققت انتشارا واسعا في السبعينات، وسرعان ما تراجعت لتندثر بعد عقد من الزمن. ولم يكن أحد من هؤلاء يتوقع أن حُمّى المنافسة مع الصحف التقليدية، ستصل إلى هذه الحدة الشبيهة بما يدور حاليا من عراك ومنافسة، بين التلفزيون المجاني والتلفزيون المدفوع، في كثير من المجتمعات.
والمراهنون من قبل على حتمية انهيار هذه الصحافة، بعد عقد من الزمن على أكبر تقدير، يُكذّبهم اليوم ما يشهده الفضاء الإعلامي الفرنسي، من انقلاب حقيقي مع تنامي توزيع الصحافة المجانية، وسعي صحف يومية كبيرة إلى إصدار مثل هذا النوع من الصحف، تربط القارئ بالصحيفة الأم، وتثير رغبته في متابعة ما بدأ قراءته في الصحيفة المجانية. فبينما كانت في بداية نشأتها تقتصر على أخبار قصيرة، أغلبها من النوع الطريف، مرفقة بنشرات إعلانية وخدمات تسويقية متنوعة، انتصبت اليوم كصحف عامة، بإدارة تحرير وصفحات في مختلف مجالات العمل المهني، من سياسة واقتصاد ومقالات تحليلية على قدر كبير من الاحترافية. ويفيد آخر تقرير عن سوق القراءة بفرنسا، نشرته الجمعية الفرنسية لتوزيع الصحف بجريدة “لوباريزيان”، بأن الصحيفتين المجانيتين “فان مينوت” /20 دقيقة/ و”مترو”، تحتلان المرتبة الأولى في سُلم الصحف والمجلات الأكثر قراءة، بأزيد من مليون قارئ للصحيفة الواحدة، متقدمتان على اليومية الرياضية “ليكيب” التي حققت سنة 2000 ذروة الصدور ب900 ألف نسخة، ونزلت اليوم إلى 600 ألف قارئ، ثم “لوموند” التي تراجعت بشكل صادم، من 600 ألف إلى 320 ألف قارئ.
ويرصد التقرير التراجع الكبير في مبيعات معظم كبريات الصحف الفرنسية لسنة 2022، والذي ينذر بحالات جنائزية، قادمة لا محالة، لبعض الصحف التي قد تلتحق بأخريات لفظت أنفاسها، على غرار الجريدة العريقة “لاتريبون”، وأيضا “فرانس سوار” التي كانت لمن عليه أن يتذكر، أهم وأعرق جريدة على الإطلاق نشرا وتوزيعا على المستوى الأوربي، حيث كانت تطبع في منتصف الستينات 1،5 مليون نسخة يوميا، قبل أن تتراجع مبيعاتها في نهاية 2012 إلى 50 ألف نسخة، لتتوقف بعد ذلك عن الصدور في مشهد جنائزي أبكى الكثير من الفرنسيين.
ويحذر معظم المختصين في الإعلام المكتوب من أن تؤدي المبيعات الكارثية، في فرنسا وفي الاتحاد الأوروبي برُمّته، والتي انخفضت خلال السنوات الأخيرة بمعدل أربعة ملايين نسخة يوميا، إلى ارتماء بعض الصحف في أحضان الدوائر الاقتصادية النافدة، كمتنفس مالي ضروري ولو على حساب كبح حريات الصحافيين، وخدمة أغراض غير ذات صلة بالرسالة الإعلامية. فإذا ما استمر التراجع في عمليات النشر، وهو أمر حتمي بالتأكيد فإن الصحف الفرنسية وخاصة منها الصحف المرجعية، مثل “لوموند” و”لويفغارو” وغيرهما، قد تقع تدريجيا تحت سيطرة عدد من الأباطرة وكبار رجال الأعمال والصناعة، وغيرهم ممن يقيمون فيما بينهم، ولو ظاهريا، أشكالا مختلفة من التحالفات، بما يشكل خطرا على التعددية الإعلامية والمصداقية اللازمتين، لمواجهة غزو الصحف المجانية والإنترنيت.
وإذا كانت بعض الصحف تحاول الاستنجاد ببعض الأباطرة للتنفيس المالي عن أزمتها، فغدت بفعل ذلك أكثر فأكثر ملكا لمجموعات صناعية تسيطر على القوة الاقتصادية، ومتواطئة مع السلطة السياسية، فإن هناك من الصحف من ترفض الاحتماء “بالمال الحرام”، حتى وإن أدى بها الأمر إلى الإفلاس أو الاستغاثة بجمهور القراء، كما هو شأن صحيفة “لومانيتي” (الإنسانية) ذات الميولات الشيوعية التي استجمعت مؤخرا مليون أورو، من خلال نداء للقراء أطلقته على شكل تبرعات أو قروض، ريثما تتمكن من بيع مقرها الواقع بالضاحية الباريسية (سان دوني)، الذي استقرت قيمته حسب الوكالة العقارية المكلفة بعملية البيع في 18 مليون أورو. وتحتاج اليومية التي تنشر أقل من 60 ألف نسخة بطاقم متكون من 240 من المأجورين، إلى مليوني أورو بعد أن سجلت خسارة بمبلغ مليونين ونصف المليون أورو سنة 2022. الخسارة مردها وفق الكثير الإعلاميين، إلى كون الجريدة لا تقول شيئا واضحا ولا مفهوما، بل هي عبارة عن نشرات ذات صبغة شيوعية بعيدة عن جلب القراء.
سبب آخر لا يقل ضراوة عن الصحف المجانية، التطور الكبير الذي تشهده الصحافة الجهوية المستنبتة من صميم بيئة القارئ، والقريبة إلى حد كبير من اهتماماته، حيث الأخبار الدولية والأحداث السياسية المختلفة، لا تأخذ أكثر من قسط قليل من اهتماماتها، على اعتبار أنها متوفرة إلى حد التخمة في القنوات التلفزية والفضائيات المختلفة. ومبيعات الصحف الجهوية في تزايد مستمر في كل مناطق فرنسا حيث صحيفة “فرانس أويست” الجهوية، على سبيل المثال، تبيع حوالي ضعف ما تبيعه جريدة مرجعية مثل جريدة “لوموند”.