الأخبارسياسةمستجدات

جبرون والاحتجاجات.. في الحاجةِ لـ”حزبية جديدة” تقوي الدولة وتنهي الشعبوية

الخط :
إستمع للمقال

مازالت قضية احتجاجات إقليم الحسيمة التي انطلقت منذ حوالي ثمانية أشهر، تثير اهتماما واسعا لدى المتتبعين بشتى أطيافهم وتوجهاتهم، بين متعاطف مع المحتجين ومطالبهم التي يرى فيها طوق نجاة من جحيم نظام سياسي متحكم في كل شيء، ومستنكر للفعل الاحتجاجي الذي لا يرى فيه سوى إساءة للمغرب و”نموذجه الاستثنائي” وتهديما لرصيد الإنجازات التي تم تحقيقها منذ اندحار الاستعمار عن المغرب.

احتجاجات الحسيمة وقبلها الاحتجاجات التي عرفتها ولا زالت تعرفها عدد من أقاليم وجهات المغرب، طلبا للتغيير وطمعا في تحقيق المطالب والقطع مع سنوات الفساد المستشري في عروق المؤسسات العمومية، دفع أستاذ التاريخ والفكر السياسي الدكتور محمد جبرون، لصياغة دراسة تحليلية للظاهرة الاحتجاجية في المغرب، وتقديم قراءات شافية تقود نحو حلول حقيقية، بكلام علمي بعيدا عن التحليلات التي قد تحمل محاباة لأي طرف.

محمد جبرون – أستاذ التاريخ والفكر السياسي

ففي مقاله المعنون بـ”مساهمة في نقض الشعبوية وتأسيس العقلنة السياسية”، يتساءل جبرون حول ظاهرة “الاحتجاجات غير النظامية (التي صارت) في الشوارع طقسا يوميا في الكثير من المناطق والمواقع الرمزية في المملكة.. كالطريق الأقصر والأيسر لتحقيق المطالب والتطلعات العامة والخاصة بعد انسداد القنوات الطبيعية أو اختناقها.. هل (هي) دليل عافية في الوطن، أم هي مؤشر أولي على اختلال في النظام؟”.

ويجيب جبرون بالقول إن “ظاهرة الاحتجاج في جوهرها.. شكل متشنجٌ من التواصل بين بين الجمهور والدولة.. (من منطلق أن) «أعداء» الدولة اليوم هم أبناؤها الذين تربوا في مدارسها، وتخرجوا من جامعاتها، واستفادوا من خدماتها.. هم جيل ما بعد الاستقلال الذي تشبع بثقافة الحقوق، والعدالة.. وفَهِم أن الدولة مسخرة لخدمته وتلبيةِ حقوقه، والمسؤولة عن ممارسته السليمة لها..”، مرجعا هذا التوتر “في العلاقة بين الدولة والجمهور الذي يتجلى بعضه في الاحتجاج غير النظامي إلى تحول ثقافي عميق عرفته الثقافة السياسية للمواطن المغربي في الخمسين سنة الماضية..”.

ويضيف جبرون أن من وصفهم بـ”الاحتجاجيون” “يستخدمون دليلا لإدانة الدولة، وإثبات تهمة خيانتها على مسكوكات وفرضيات شعبوية سهلة، من قبيل تفشي الفساد والاستبداد، واستمرار سوء توزيع الثراء العمومي.. ويتجاهلون كُلية العوامل والظروف الموضوعية التي قد تكون سببا في تعثر الدولة وسوء أدائها الاقتصادي والاجتماعي في الماضي والحاضر، وهو فقر وكسل تحليلي خطير”.

ويشدد جبرون على أنه “وحسب هذه المسكوكات الجاهزة، يرجعُ الفقر والتدهور الاجتماعي والاقتصادي الذي يعاني منه البلد إلى بعض الفسدة الذين أكلوا أموال الناس بالباطل، واستفادوا من غياب المحاسبة التي يتيحها الاستبداد، ومن ثم فالبرنامج السياسي الذي يقترحه الاحتجاج لتجاوز الأزمة واضح وبسيط، ويتكون من نقطتين: محاكمة الفسدة ومعاقبتهم؛ ورد الحقوق إلى أهلها، أو بعبارة أخرى إعادة توزيع الثراء العمومي”.

ويؤكد جبرون في ذات مقاله على أن “هذا الوعي الشعبوي السطحي والبسيط المُوَلِد لطاقة الاحتجاج يعكس اختزالا خطيرا للمشكلة، ويحتاج إلى عمل نقدي رصين وذي مصداقية لتجاوزه والتخفيف من آثاره الكارثية”.

وحتى الدولة لا تتردد مبدئيا في محاربة هذا النوع من الفساد إذا ثبت.. بل الفساد السياسي الحقيقي والخطير، الذي يشكل معضلة تاريخية، هو أكبر من ذلك، بنيوي، يتجلى بعضه في استغلال النفوذ، والفوز بالصفقات العمومية دون موجب حق، وعدم تكافؤ الفرص (الريع)..”.

ويتابع “إن هذا النوع من الفساد ليس إشكالية أخلاقية تتعلق باستقامة فرد أو مجموعة من الأفراد، ولا يمكن التغلب عليه بالمتابعات القضائية، وتشديد المراقبة والمحاسبة على أهمية هذه الوسائل.. بل هو إشكالية سياسية تاريخية عويصة لا يمكن القضاء على جذوره البنيوية سوى بالنجاح في إرساء ثقافة المال العام؛ وتعزيز الاستقرار وطي صفحة الصراع السياسي حول الدولة وطبيعتها”.

ويضيف “من ثم، فمقولة محاربة الفساد كمقولة شعبوية-وكما درج على استعمالها الكثير من الإعلاميين والنشطاء في شبكات التواصل – تُسْهِمُ بطريقة غير مباشرة في استمرار الفساد، ورسوخ عوامله، وذلك بخلاف محاربة الفساد كمقولة عقلانية، تتوسل بالاستقرار والإصلاح المؤسساتي والمالي والثقافي”.

وفي حلول الفساد الذي ينادي الاحتجاجيون باسقاطه يقول جبرون “أن مدح الاحتجاجات غير النظامية والاستسلام للنزعات الشعبوية هو في العمق إجهاز على شرعية الوسطاء السياسيين وفي مقدمتهم نشطاء الأحزاب، وتقويض لكل جهود العقلنة السياسية، وتسفيه لخطابها”.

على أساس أن “هذا الحال يبدي مسيسَ الحاجةِ إلى حزبية جديدة أو جيل جديد من الأحزاب يستوعب هذا «الكل» الجديد، ويعبر عن طموحاته تعبيرا صادقا، حزبية تراعي التحولات العميقة التي شهدها المغرب مع مطلع الألفية الثالثة في ظل ملكية «جديدة»، ومشروع وطني جديد، وجيل جديد. والدولة مسؤولة عن هذا العمل إذ قوتها في جانب منها مستمدة من قوة الأحزاب”.

ويخلص جبرون إلى أن “ظاهرة الاحتجاج اللانظامي كتعبير عن طغيان الشعبوية في السياسة داء عضال ومدمر إذا لم يتدارك أمره. ويبدو – من خلال ما تقدم – أن الدواء الفعال القادر على إضعاف هذه الظاهرة، وتحجيم سلبياتها في الواقع، يكمن في الرفع من منسوب العقلنة في الحياة السياسية المغربية، الذي يتمثل في إعادة الاعتبار لمصادر إنتاج العقلنة السياسية وتنشيطها”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى