الأخبارركن الميداويمستجدات

تجارة الإبداع بين الكسب الفاحش للقدم والكساد المزمن للقلم

الخط :
إستمع للمقال

وأنا أتابع مباراة النصر السعودي مع الاتحاد برسم منافسات الدوري السعودي لكرة القدم، شرد بي الذهن لدى سماع الواصف الرياضي يستعرض بالأرقام المبلغ الذي صرفه نادي النصر للظفر بخدمات اللاعب كريستيانو رونالدو، إلى ما قاله المثل المغربي “إيلا ما جابها القلم يجيبها القدم”.

250 مليون أورو هو المبلغ السنوي الذي حصل عليه اللاعب بما في ذلك الأرباح على تسويق القميص والماركة الرياضية والإعلانات والمكافآت المالية، وهو مبلغ لم يكسبه الأدباء والشعراء العرب مجتمعين من الشاعر العبقري امرؤ القيس إلى أمير الشعر النضالي، أحمد مطر، وصاحب جائزة نوبل، نجيب محفوظ، بل منهم من عاشوا حفاة مشردين بعد أن قذف بهم البؤس والحرمان إلى الصقيع والزوايا العارية في جغرافية المكان.

شرد بي الذهن أيضا إلى هذا العضو الجسدي الذي أتاح للإنسان، منذ العصور الغابرة، اكتشاف الكثير من الأقطار قبل ترويض الخيل والبعير، وإلى مجموعة من الأوصاف والتلميحات العربية الدالة عن القدم التي هي حاضرة في إظهار الكبرياء ك”وضع الساق على الساق مع هز القدم”، وفي البطش والاستبداد “ضرب الأرض بقدمه” وفي الثبات والرزانة “قدماه على الأرض”.. وغير ذلك من المعاني والمجازات التي يختزل فيها الشعر العربي قدم الرجل كعنوان لركوب المخاطر، وقدم المرأة كرمز للنعومة والجمال، فضلا عن قاموس الكلمات المُشتقّة من القدم كالمُقدّم والإقدام والتقدم..

المقصود بالمثل المغربي “إيلا ما جابها القلم يجيبها القدم”، ليس بالتأكيد القدم المُحيلة على النعومة والأنوثة والجمال، ولا تلك التي تمنح للراقصات ارتكازا صلْبا للتمايل وهز البطن، ولا حتى تلك التي يوظفها البعض في صناعات مختلفة كمحركي دواليب الأواني والنسيج والدبّاغين صُناع الجلد … وإنما المقصود بالمقولة المغربية، القدم التي تأخذ في المحطات الإذاعية والتلفزية وفي الصحافة المكتوبة مساحات واسعة لإبراز نجومية أصحابها. تلك الصحافة التي حققت انتعاشا كبيرا في مبيعاتها بعد أن تعرضت لكل صغيرة وكبيرة في مشوارهم الرياضي والعائلي، بل وأعطت الأولوية للأخبار المتعلقة بحياتهم الخاصة وهواياتهم وماركة أحذيتهم ولباسهم على حساب أحداث سياسية واجتماعية قد تكون أكثر أهمية. ولا تتردد ذات الصحف في إعلان الحداد على صفحاتها إذا ما تعرض أحد اللاعبين لكسر أو إصابة قد تبعده عن الملاعب ليدخل الجمهور في نكسة طويلة وكأنه فقد رمزا من رموزه الوطنية.
وتدرك القنوات الفضائية ومعها الصحافة الورقية والإلكترونية أكثر من غيرها أنه لا يوجد شأن من شؤون الحياة يمكنه ُأن يشغل اهتمام مئات الملايين من الناس في لحظة واحدة مثل لعبة القدم، التي تخلق أجواءً من المتعة تنسى فيها الجماهير، تحت تأثير نشوة الفوز، إحباطات الحياة اليومية.

والقدم التي يقصدها المثل المغربي تتفاخر بعبقرية إبداعية أرقى وأبلغ من عبقرية كبار الشعراء والرسامين والعازفين، وتساندها في ذلك الغالبية الكبرى من ساكنة كوكبنا التي تُقدم عبقرية رونالدو على عبقرية بيكاسو أو دانتي، وشرائح عريضة من جمهورنا المغربي الذي يُفضل عبقرية حكيمي وزياش على عبقرية ادريس الشرايبي وعبد السلام عامر.. فمُداعبو الكرة هم المبدعون والمُنقذون وصناع أمجاد الوطن، وهم باختصار شديد كائنات من كوكب آخر، حتى وإن كانوا لم يتجاوزوا في معظمهم الدراسات الإعدادية.. وكلنا نتذكر كيف أن الإعلام الجزائري لم يجد كلمات أقوى من البركان والصاعقة، والزلزال، للتعبير عن هول الصدمة التي أصابت الجزائريين وهم يغادرون كأس إفريقيا في أطوارها الأولى.. سبب الصدمة أنهم جعلوا من كرة القدم، تحت تخدير الطغمة الحاكمة، حياة كاملة بكل ما فيها، وعقيدتهم الوطنية الأولى التي يقاس بها شرف الأمة ومجدها، حيث الهزيمة هي مهانة لشعب بكامله، والانتصار هو رمز لهيبة الدولة وعظمتها.
قد يرى البعض أن المقارنة لا تصح بين القدم والقلم، لكن الحقيقة أنهما معاً يتاجران، يبيعان ويكسبان. واحد بالقلم يحمل تجارته شعرا كان أن نثرا في دماغه ويعرضها، حتى وإن كانت الكلمة أنبل من أن تكونسلعة، على كمشة من القراء المتصالحين مع الكتاب، والآخر بالقدم يعرض سلعته الفُرجوية على جمهور العشاق وأعدادهم بمئات الملايين.. كلاهما على باب الله.. بضاعة اللاعب، الفرجة الميدانية وبضاعة الكاتب أو الشاعر بضاعة كاسدة يتوقف إنتاجها على اللحظة الإلهامية.. وقد تدر القدم على صاحبها في أسبوع واحد ما لن يكسبه القلم طوال العمر، بل يظل جميع أدبائنا ينشرون ويبيعون ولن يكسبوا في عشرات السنين ما يكسبه لاعب واحد بقدمه في سنة واحدة.. ومع ذلك نعجب لبعض الأدباء ممن يقيمون الدنيا إن فاز أحدهم بجائزة قدرها 50 ألف درهم.. فهم يستكثرون على بعضهم جوائز مالية تافهة، فيما يكسب اللاعب أضعاف أضعافها في مباراة واحدة.
وإذا سلّمنا بالاختلاف الحاصل بين القلم والقدم في نوعية البضاعة، فإن اختلال الموازين حاضر بقوة في ساعات العمل حيث الأولى مقيدة بفترة زمنية محدودة تستقيل بعدها في عمر مبكّر، والثاني، أي القلم، هو كالقلب لا راحة ولا وقت له. فتحريك القدم عمره قصير مرتبط بعامل الفتوة والشباب الذي يحقق لمداعبي الكرة وبسرعة المال والمجد والشهرة، في ظل مواكبة منتظمة من القلم الذي يغدق عليهم من الثناء والإطراء ما يجعلنا نعتبرهم أفذاذا وعباقرة فوق العادة.

ذلك هو عجب القدم ولا أظن أن يكون من بين الدروس الكونية أعجب في التاريخ من قدم الغراب الذي أرسله الله ليعلّم قابيل كيف ينبش في الأرض ليحفر حفرة لجثمان أخيه هابيل، كأول درس للإنسانية في الدفن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عاجل
زر الذهاب إلى الأعلى