![](https://www.barlamane.com/wp-content/uploads/2015/11/134.jpg)
كان الحسن الثاني يتابع لحظة بلحظة تحركات المتطوعين الـ 350 ألف في المسيرة الخضراء منذ توجه المجموعات الأولى من مختلف جهات المملكة وتجميعها بمخيمات أقيمت بضواحي طرفاية وطانطان، ثم الانطلاق نحو “الطاح” لاختراق الحدود بعمق 15 أو 20 كلم، وإقامة مخيم هناك على مسافة قريبة من موقع تمركز الجيوش الاسبانية.
وكان من أقرب المقربين للملك الراحل في هذه المرحلة الصعبة، مؤنسه وجليسه ، الفقيه بين بين، الذي رافقه على امتداد 33 سنة لم يفارقه خلالها حتى آخر لحظة في حياته، وقد عرف الفقيه بين بين بصراحته وجرأته وعدم تهيب الجلوس في حضرة الملك .
قال بين بين ، وفقا لماء جاء في كتاب ” نزاع الصحراء” لصاحبه الفرنسي موريس باربيي ، إن مزاج الحسن الثاني تغير منذ بداية أكتوبر 1975، حيث أضحى سريع الغضب لا يأكل ولا ينام إلا نادرا، يكاد لا يفارق سماعة التلفون.
وأشار بين بين إلى “تغير عادات جلالة الملك الحسن الثاني فجأة ولم يعلم أحد سبب هذا التغيير، إذ لم يعد يحلو له أن يقرأ الكتب ويناقش مجالسيه ومحاوريه حول محتوياتها كما كان من قبل، ولم يعد يدخل مع مؤنسه في مساجلات أدبية يتبادلان خلالها قرض الشعر ويتنافسان في الإتيان بالأجود من المعاني والألفاظ، تغير كل هذا وامتلك غضب مستمر جلالته ، وبدأ يقضي فترات طويلة من الليل والنهار في التأمل والتفكير العميق”.
وأكد أن الحسن الثاني أضحى يفضل العزلة وانقطع عن تناول الأكل، وبلغ الحد بالمؤنس إلى محاولة دفعه لتناول ولو ياغورت أو عصير، ورغم استخدام كل ما في جعبته من ظُرف فكاهة ونفس مرحة وذهن يقظ، واستغلال ود وثقة ومحبة الملك له، لم ينجح مرارا في إقناع الملك بتناول ولو جزء يسير من الطعام خلال تلك الفترة.
وأضاف أن “من اللحظات العصيبة، تلك المرتبطة بسعي جلالة الملك الراحل الحسن الثاني إلى إرغام مدريد ، الفرانكاوية، على قبول المفاوضات المباشرة، حيث لم يهدأ باله إلا بعد نيل مراده.”
يذكر أنه تحت الضغط الذي شكلته المسيرة الخضراء، في وقت كان فيه الجنرال فرانكو طريح الفراش، لم يبق أمام اسبانيا إلا قبول المفاوضات مع المغرب وموريتانيا، والتي ستنتهي باتفاقية 14 نونبر 1975 .
وحسب موريس باربيي (Maurice BARBIER) أمر الملك الراحل الحسن الثاني ليلة 6 نونبر بإبلاغ مدريد بأن المسيرة الخضراء ستواصل طريقها، اللهم إذا قبلت الحكومة الاسبانية بدء المفاوضات الثنائية فور تسليم الصحراء للمغرب وإقرار سيادته عليها.
ولم يستبعد الملك آنذاك حدوث مواجهات بين متطوعي المسيرة والقوات الاسبانية إن لم تقبل إسبانيا بالمفاوضات، وأضاف الحسن الثاني… وفي حالة حدوث مواجهات ستضطر القوات المسلحة المغربية للتدخل، وكان هذا بمثابة تهديد مباشر وصريح، علما أن الرباط نفت ما أقر به موريس باربيي الذي استمر في الدفاع عن صحة ما نشره، مضيفا أن الوزير بنهيمة هو الذي تولى إبلاغ الرسالة المتضمنة للتهديد إلى سفير اسبانيا بالرباط، والتي كشفت مدريد عن فحواها بعد عرضها على مجلس الأمن في اجتماعه الطارئ يوم 6 نونبر 1975، ورغم هذا قامت اسبانيا كذلك بتكذيب أن تكون عرضت الرسالة المذكورة على مجلس الأمن لكنها لم تنف فحواها (جريدة “لومند” 8 نونبر 1975، ص 3 ) .
ظل الملك قلقا منذ منتصف نهار 6 نونبر إلى حدود منتصف ليلة 7 نونبر، ولم يهدأ غضبه إلا حينما بلغ إلى علمه أن الاتجاه المساند للمفاوضات باسبانيا أخذ يسيطر على الموقف. آنذاك، وعلى حين غرة، تغيرت ملامح الحسن الثاني، وصباح يوم 8 نونبر حضر الوزير الاسباني، المكلف بالصحراء، أونطونيو كارو مارتينيز، إلى أكادير رفقة السفير الاسباني بالرباط لمقابلة الملك قبل الشروع في مباحثات مع الوزير الأول (أحمد عصمان) ووزير الخارجية (أحمد العراقي) آنذاك، حيث تم الاتفاق على استئناف المفاوضات.
وفي يوم 9 نونبر أعلن الملك الراحل الحسن الثاني عن وقف المسيرة الخضراء ومطالبة المشاركين فيها بالعودة إلى المخيمات معلنا أن الغاية منها قد تحققت. وهذا ما حصل، إذ عادوا إلى مخيمات طرفاية وطانطان في انتظار مآل مفاوضات مدريد وظلوا على أهبة الاستعداد للانطلاق من جديد نحو الصحراء في حالة فشل المفاوضات .
رغم أن حدة غضب الملك قد انخفضت بشكل ملحوظ على امتداد يومين، سرعان ما استشاط غضبا بدءا من الساعات الأولى من ليلة 9 نونبر عندما علم أن المختار ولد داداة تسرع في المساومة وحاول إفهام الملك أن بإمكانه الانحياز إلى الجزائر أو البوليساريو، وقام الرئيس الموريتاني بمقابلة الرئيس بومدين يوم 10 نونبر وطلب منه هذا الأخير، من حيث لا يحتسب وبلهجة شديدة، الاختيار بين الوقوف بجانب المغرب أو بجانب الجزائر بدون لف ولا دوران، هذا ما لم يستسغه المختار ولد دادة، ثم سعى إلى لقاء الملك، وهو ما تم يومي 12 و13 نونبر بمراكش.
وبعد هذا اللقاء التحق وزير الخارجية الموريتاني حمدي ولد مكناس، بالوفد المغربي المفاوض بمدريد، ولم ينتظر الرئيس بومدين طويلا للقيام بالرد على هذه المستجدات، حيث قام يوم 11 نونبر بتفقد جيشه المرابض بـمنطقة بشار غير بعيد عن الحدود الجزائرية المغربية.
في ذلك اليوم غضب الراحل الحسن الثاني، وارتفعت درجة غضبه عندما علم ببداية الحملة الإعلامية التي شرعت فيها ألمانيا الشرقية ضد المغرب، وكان رده سريعا، إذ قطع علاقاته الدبلوماسية معها صبيحة يوم 13 نونبر، ثم وجه إنذارا إلى جميع الدول المحسوبة على المعسكر الشرقي آنذاك.
ارتسمت الابتسامة على محيا الحسن الثاني صبيحة 14 نونبر مع الإعلان عن فحوى اتفاقية مدريد، والذي كان بمثابة انتصار دبلوماسي مغربي موريتاني، ثم زادت فرحة الملك عندما بلغ إلى علمه تشجيع واشنطن لهذه الاتفاقية ودعمها لها.