برلمان.كوم-سكينة ب
تجري في الآونة الاخيرة حرب ضارية بين المدافعين عن اللغة العربية ودعاة التوجه الفرنكفوني، لكن واقع استعمال اللغة الفرنسية داخل الإدارة والمدرسة والشارع يرجح انتصار كفة التوجه الاخير. وعليه فهذا الإشكال المطروح في الفضاء العمومي يدفعنا للتساؤل. ألا يعتبر تداول اللغة الفرنسية متجاوزا نوعا ما ؟
أهلية الفرنسية بين لغات العالم
في عالم يحوي ملياري شخص يتداول الإنجليزية دون 500 مليون ناطق بها كلغة اصلية، لكون الولايات المتحدة الامريكية مركزا للعالم، وكونها وجهته الاقتصادية والتكنولوجية و السياسية الاولى لازلنا كمغاربة نعتبر الفرنسية سدرة العلم ومنتهى الثقافة مع كونها لغة لا تتداول خارج حدود فرنسا واطراف بلجيكا وجزء من كندا وسويسرا الى جانب مستعمراتها العتيدة بدول افريقيا والمغرب العربي المتمثل في “المغرب، تونس، والجزائر”.
ولأننا نمارس هذا الفرض العنيف للغة الفرنسية في الإدارة ومقابلات العمل و الشارع كذلك كلغة بديلة للتخاطب فلا حق لنا في ندب العربية الفصحى وسط التغريب الذي تعيشه على أراضيها.
فالتصدي لهجمات اللغة الفرنسية الانيقة، لايزال متواضعا. وحرب الدفاع عن اللغة العربية، يتلخص في محاولة البقاء، ولا زال العديدون من أنصار لغة الضاد يقاتلون من اجل مبدئهم السامي المتمثل في إعادة العربية لمواكبة العصر وعدم تركها نهب الجمود و النسيان، لكن العمل على تقوية اللغة العربية بجعلها حقل اشتغال وتفكير قد لا يكون كافيا للحفاظ على مكانتها، اذ من قواعد الحرب الذكية ان لا تكتفي بالعمل على تقوية صفك بل على اضعاف خصمك كذلك خصوصا وان كان نفوذه اخذا في الانحسار و التراجع.
هي ليست حربا تروم القضاء على لغة موليير بقدر ماهي حرب تروم إنقاذ لسان المتنبي، فالعاقل يقبل بل ويدعو لتعلم لغات العالم والانفتاح على ثقافاته شرقا وغربا لاكتساب أسلحة جديدة تفتح افاق المستقبل، لكن هذا التعسف بحق العربية حيث تعزل وهي اللغة الرسمية بين جدران قاعات الدرس وتنطلق الفرنسية حرة في أروقة المكاتب و تحت اسقف الشركات وعلى كراسي المقاهي الى جانب استمتاعها الكافي بحقها في التداول في حجرات الدرس يجعل الحسبة غير مضبوطة.
هل تساءل احدنا يوما عما اذا كان الفرنسيون او الامريكيون او حتى الايطاليون يتخاطبون في شوارع تولوز او نيويورك او البندقية بلغات اجنبية؟
الرجوع الى الاصل
سيظل احتمال استخدام الدول الأخرى للغات اخرى بعيدا، لاعتزاز عدد من الدول بلغاتها الاصلية وتمسكهم بها. ولا ننوي هنا اتهام المغاربة بخجلهم من العربية او الامازيغية كلغات رسمية، وانما نكشف حقيقة استسلامهم الطويل لوصاية فرنسية مهترئة على الأقل على الصعيد الثقافي في عالم يتعدى حدود الأطلسي. ولكن الهوة التي يقع فيها الواقع العربي لا يعجل الطموح في اسقاط التبعية لفرنسا، بقدر ما يجعل طموح المغاربة اخفض سقفا، بحيث الأمل تغيير تلك التبعية فقط، لكونها متجاوزة بتبعية اخرى “مودرن”.
وبما ان أهلية الفرنسية كما ذكرنا مقارنة بالإنجليزية مثلا او لغات اسيا الاوسع انتشارا في العالم هي جد ضعيفة. فما الذي يجعل لها سطوة مماثلة في كافة المرافق حتى تكون معيارا لمدى معرفتك ومقياس تحصيلك، في الوقت الذي ترتقي فيه هذه الدول الناجحة بلغاتها الام كما نبه على ذلك العالم الجليل المهدي المنجرة؟.
الفرنسية ليست معيارا للثقافة
يعود هذا الخلط الفادح لمفهوم الثقافة لدينا كمغاربة، والمؤسف ان عددا مهما يقيس مدى الوعي والاضطلاع بإتقان اللغة الفرنسية، وحتى على مستوى فرص الشغل فقد تصبح الفرنسية عائقا امام “الدرويش” منهم لإثبات قدراته الشخصية على الساحة.
المثقف هو شخص متخصص في مجال ما، بحيث يعرف عنه كل شيء ويعرف فيما عداه أشياء قليلة، وهو الشخص الذي لا ينقطع عن المطالعة ومتابعة المستجدات، بالإضافة لإتقانه التخاطب بألسنة مختلفة عن لغته الام، ولكن ذلك يظل شرطا إضافيا لقياس مؤهلاته لا ركنا أساسيا في تعريفه.
لكن النظرة السائدة للمثقف قد تكون مختلفة عن التعريف، بحيث لا يمكن اعتبار حامل لدكتوراه الدولة في تاريخ الإسلام او الادب العربي او السياسة او العلوم التطبيقية مثقفا او كفؤا، ان لم يرافق ذلك كله لسان افرنجي مبين، وقد يعود هذا الحكم الشاذ للنظرة التقليدية للمتعلم، الذي كان يتلقى التحصيل خارج البلاد، وغالبا في فرنسا فيعود محصلا لعلوم الفيزياء والبيولوجيا او القانون بلغة فرنسية قوية لا يمكن فصلها عن تحصيله، لأنها كانت أداة وصوله للمعلومة.
اما الان وداخل بلد عربي، فالجامعات تدرس باللغة العربية وكذا المدارس، وبإمكانك تحصيل مختلف العلوم بلغتك الام، وصار متجاوزا بذلك الحكم عليك بالجهل لأنك لا تتقن لغة أخرى.
اللغة العربية …. لغة الصمود
تظل اللغات الثانية مهارات تخاطبية من المحبذ امتلاكها، ولكن من الصعب جدا، بل من المجحف خلع صفة التحصيل على شخص لا يملك هذه المهارة، ولم يخصص لها جانبا من وقته، ويكون الموضوع اكثر اجحافا ان سببت رجلا او امرأة يحفظ من اشعار العرب الاف الابيات بالجهل والضعف، وهو الذي وسع مداركه بالإلمام بتاريخ امته وصقل مواهبه بدواوينها وحسن ذوقه واخلاقه بنصوص كتابها المقدس.
يبدو ان العربية تتراجع اكثر فاكثر على ملعبها، ويتم غزوها من الداخل بنشر ثقافة الاجحاف بحقها، ونعت الناطقين بها والمهتمين بشأنها بالرجعيين والمتخلفين عن الركب مع انها لغة حافظت على وجودها لقرون ممتدة، ولا زال عدد ناطقيها كبيرا لقوتها وسحرها ومتانة بناءها وثراء تراثها ومكتبتها، فهي الخامسة عالميا من حيث عدد المتحدثين بها: 293 مليون متحدث متجاوزة بذلك فرنسا بثلاثة عشر بلدا.
ومع ان للغتنا العربية نقاط قوة جغرافية وثقافية ودينية هائلة، فإنها لا تفرض سلطة كافية في بلادنا، بل ولا تحوز اعجاب العديد من المواطنين الذين يختارون الفرنسية كلغة تخاطب مع أبنائهم واصدقائهم ومدراءهم مساهمين بذلك في اضعاف هذه اللغة وانهاكها الى جانب دعاة “الدارجة” والمروجين لها.
الفرنسية … لغة الذوات
وفي جانب اخر فإن محاولة فرز هذه الفئة من المجتمع، تجعلك متجها مع النظرة العامة، التي تؤكد كون الطبقة الميسورة هي المتبنية الرئيسة لهذا السلوك، ففي أوساط أبناء الذوات والسياسيين وكبار التجار تنعم الفرنسية بوافر العناية والاهتمام، تاركة للعربية مهمة التعبير عن هموم وأفكار الطبقة الكادحة التي ترتاد المدرسة الحكومية وتنال قسطا عادلا من اللغتين ولكن القسط النزر من متانة المناهج.
ومن ابرز تجليات هذا الحكم، كون الوجوه البارزة في المناصب العليا ناطقة باللسان الفرنسي حصريا، وغير قادرة على التعبير عن نفسها بالعربية، ونذكر في هذا السياق وزراء ونواب وموظفين سامين يتعثرون في ابسط خطاباتهم المكتوبة لهم بالعربية، وجانحين كأبناء طبقتهم للفرنسية كوسيلة ارقى وانظف للتعبير محتقرين متابعيهم من أبناء الشعب.
وهذه الهوة الشاسعة بين الطرفين، ستبقي دائرة البؤس التي يعيشها المواطن الكادح مغلقة، بل ملفوفة حول عنقه.
فمن لمأساتك أيها المسكين؟ ومسؤولك لا يفهم سؤلك؟