![](https://www.barlamane.com/wp-content/uploads/2024/07/5d2874e8-85b4-47ea-af9c-4217202110f2-780x470.jpeg)
كثيرون لم يَستوعبوا دلالات العفو الملكي السامي بمناسبة عيد العرش المجيد، ولم يَلتقطوا إشاراته الإيجابية، وتداعياته القانونية الصحيحة، فمنهم من انبرى يَتحدث واهما عن انتصار مَزعوم للجناة على الضحايا، ومنهم من تحدث زاعما عن مَحو للجريمة الأصلية، بينما أَوغل البعض الآخر في استعمال قاموس حقوقي لا وجود له في أبجديات العفو وفلسفته القانونية.
فالعفو قانونا يَنصرف إلى العُقوبة جُزئيا أو كُليّا، وبالتالي فهو لا يُعتبر تصحيحا لحكم قضائي ولا صك براءة للشخص المحكوم! فسعيدة العلمي وتوفيق بوعشرين ورضا الطاوجني وغيرهم هم مُدانون بقوة القانون، ولا يُمكن الحديث عن براءتهم مثلما يَزعم الزاعمون الذين لا يَفهمون القانون.
والعفو بموجب الظهير المنظم له، لا يَجب أن يلحق الضرر بالغير وتحديدا الضحايا والمطالبين بالحق المدني، وبالتالي فإن من يَزعم أن العفو جاء لينتصر للجناة إنما هو مُخطئ أو مضلل أو جاهل. فالضحايا يحتفظون بحقهم في التعويض والمطالب المدنية، ويمكنهم مباشرة التنفيذ متى تَوفر لدى المحكوم عليه مَوارد مالية قابلة للحجز والبيع في المزاد العلني.
والعفو كذلك لا يُعتبر آلية حقوقية، وإنما هو حق سيادي يَختص به المشرع الجالس على العرش، والذي يُصدره على السجناء والمحكوم عليهم لمقاصد إنسانية أو صحية أو تعبيرا عن الرأفة أو مَنحا لفرصة ثانية من أجل الاندماج مُجددا في المجتمع.
كما أن العفو الملكي لا يُناقش جَوهر الحكم القضائي، ولا يُعقب عليه، ولا يُناقش حيثياته، وبالتالي لا يُمكن الحديث عن “الانفراج الحقوقي”، لأن الأصل هو أننا لسنا أمام انتهاكات حقوقية بقدر ما نحن أمام مَحكوم عليهم بمقتضى قَوانين حازت قوة الشيء المقضي به، وأن الجناب الشريف هو من ارتأى تمتيعهم بالعفو إما بناءً على طلب شخصي أو اقتراح من الجهات التي يُخوِّلها القانون رفع طلبات العفو.
هذه هي فلسفة العفو وتَقعِيده القانوني، لكن هناك من يُحاول إما عمدا أو جَهلا تحميله ما لا يحتمله. فمن يَحمِل على الأكتاف شَخصا مستفيدا من العفو في بوابة السجن، إنما يَحمل نفس الشخص الذي طَوَّقت عُنقه سابقا جرائم الاغتصاب وهتك العرض وغيرها.. لأن العفو لا يَمحي الجريمة الأصلية ولا يُلغيها نهائيا.
والضحية التي انتصبت سابقا في مُوَاجهة الشخص المستفيد من العفو كمُطالبة بالحق المدني تَبقى هي نفسها ضحية الجريمة، ولا يُمكن للعفو أن يَحرِمها من هذه الصِّفة أو يَستبدِل مَركزها القانوني في الدعوى!
وهنا لا بد من فتح قَوس للرد على من يُزايدون على الضحايا ويُسدلون عليهم أوصافا ازدرائية بمناسبة العفو الملكي الأخير. فالضحايا لا يُمكنهم أن يَعترضوا على قرار سيادي مَدفوع بالرأفة والتسامح، لأن وُجودهم أصلا في الدعوى كان بحثا عن العدالة وليس عن الانتقام والإيلام بموجب عقوبات قاسية.
والعدالة تَحقَّقت للضحايا بموجب صدور أحكام الإدانة ضد المتهمين، والإنصاف تَوَافر لهم فَور صيرورة الحكم نهائيا ومُكتسِبا للحُجِّية القانونية، وبالتالي فإن استكمال العقوبة من عَدمه لا يَعني الضحايا في شيء، بقدر ما كانت تَهُمهم الحقيقة القضائية والعدالة الناجزة.
هذه هي فلسفة العَفو، وهذه هي إشاراته ودلالاته السامية والحقيقية، وهناك فِعلا من التقطها مثل النقابة الوطنية للصحافة التي اعتبرت هذا العفو حافزا قويا لتطهير المهنة وتخليقها، وكذا جمعية الدفاع عن الضحايا التي أشادت بالعفو في بُعده الإنساني، مع حِفظ حق الضحايا في مَطالبهم المدنية.
لكن في المقابل، هناك من أَخلف الموعد مع هذه الدلالات والإشارات النبيلة، وأوغل في القراءة الذاتية والعدمية لموضوع العفو، مُحاولا تَقديم المجرمين المحكوم عليهم في صُورة ضَحايا مُفترضين، والضحايا الحقيقيون في صُورة جُناة مزعومين، في قَلب صارخ للمَواقع القانونية لأطراف الدعاوى القضائية.
والحقيقة أن العفو الملكي السامي هو آلية سيادية قانونية يُكرس بها صاحب الجلالة الرأفة والتسامح والصَفح، وهو بهذا المعنى ليس امتيازا للمحكوم عليهم أو للأشخاص المدانين، ولا يُعتبر حَصانة مُستقبلية ضد المتابعات القضائية، كما لا يُعد تطهيرا من ماضي إجرامي.
ومن يَتوهم ذلك ليَصنَع جُناة جُدد، ويُضخِّم الأنا الإجرامية عند بعض المستفيدين من العفو، فإما أنه واهم أو جاهل لم يَلتقط الإشارات القانونية والإنسانية الصحيحة للعفو الملكي السامي بمناسبة عيد العرش المجيد.