اعترف رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران بعظمة لسانه أنه فشل في إحداث فرص شغل للعاطلين، لكن اعترافه ذاك جاء في سياق خطاب مغرق في التناقض حد الشيزوفرينيا.
ذلك أنه اعتبره الاستثناء الذي يثبت قاعدة النجاح ويؤكدها وليس العكس، إذ أدرجه في نهاية متوالية ساقت نجاحات في تقليص عجز الميزانية والميزان التجاري والحساب الجاري لميزان الأداءات …
وبغض النظر عن تهافت حديث بنكيران عن التوازنات الماكرو اقتصادية، لأنه يعرف حق المعرفة أنه لولا انخفاض الأسعار الدولية للبترول وغاز البوطان والسكر والقمح في السوق الدولية ومجيء بعض التمويلات الخارجية، التي يمكن له أن يفسرها بالبركة كما فسر تساقطات الأمطار في المواسم السابقة إمعانا في “التكلاخ”، لكانت متواليته اليوم بالمقلوب ولوجب عليه البحث لدى فقهاء الزاوية عن مبررات لتسويغ ما لا يمكن تسويغه ولتحريك آلته الإعلامية والإلكترونية المسخرة لشن هجوماتها شرقا وغربا لتحريف نظر المواطنين عن واقع الحال.
بغض النظر عن ذلك، فإنه عسر على الزعيم الإسلامي، كما تبين من خرجاته الشفوية التي تغطي عن خواء المحتوى وغياب العمق برداد الكلام الشعبوي، فهم أن الحديث عن النجاح في تحقيق التوازنات الماكرو اقتصادية في وقت توسعت فيه رقعة البطالة وتزايد تخريب مناصب الشغل في القطاع الخاص وتراجع التشغيل في القطاع العمومي ينطوي على إقرار صريح بفشل السياسة الاقتصادية للحكومة ذريعا.
ذلك أن هدف السياسة الاقتصادية لأي حكومة مند ابتداعها في ثلاثينات القرن الماضي هو بالذات التشغيل ودر الدخل من أجل تحريك دورة الاستهلاك. وهو هدف لم يسقط حتى لما صارت الترسيمة الكينزية الكلاسيكية مأزومة ونجح الهجوم النيوليبرالي في الاكتساح.
فالسياسات الاقتصادية التي تعتمدها الحكومات حسب ماهو مجرب في العالم أجمع في ظل مختلف الحكومات، سواء سايرت الدورة الاقتصادية أو هدفت إلى إحداث تأثير عكسي عليها (p rocyclique ou contracyclique) تتوخى الحيلولة دون حدوث هبوط من شأنه يؤثر سلبا على سوق الشغل، لأن الحكومات العاقلة والمسؤولة، التي لا تخبط خبط عشواء ولا تنتظر أن يوجه خطواتها صندوق التقد الدولي ولا تعول على البركة التي قد تأتي أولا تأتي، تقدر جيدا أن الفشل في محاربة البطالة الواسعة لاينجم عنه تفقير وتهميش عدد كبير من المواطنين وتقليص الاستهلاك الخاص، الذي يعتبر محركا أساسيا للاقتصاد، بل يصبح خطرا داهما يهدد بانفراط الحل الوسط التاريخي الذي يضمن التعايش بين مكونات المجتمع وبانفجار النزاعات المتعددة الأصعدة والمستويات التي قد تقود، في حال عدم تغلب العقل على الأهواء والانحرافات، إلى القمع الشرس أو الدولة الفاشلة.
إن السياسة الاقتصادية التي اتبعتها الحكومة الحالية، ويستحيل عليها أن تثبت أنها ذاتية المنشأ مادام الخاص والعام يعرف ارتباطها الوثيق باتفاقية الوقاية والسيولة مع صندوق النقد الدولي المجددة مرتين، سياسة كانت وبالا على التشغيل في القطاعين العمومي والخاص على حد سواء.
ذلك أن معدل البطالة ارتفع بوتيرة سريعة خلال ولاية الحكومة الحالية، حيث انتقل إلى 10 في المائة في سنة 2015 مقابل أقل من 9 في المائة لدى تنصيبها، في حين كانت قد التزمت في تصريحها بخفضه إلى 8 في المائة معتمدة على تهيؤات. ولولا المعدل المنخفض للبطالة في العالم القروي، الذي يطرح إشكالا مند اعتماده سنة 1999 ليس هنا مجال مناقشته، لكان المعدل أعلى بكثير. وتبقى البطالة في الوسط الحضري هي المقياس الذي يمكن الاعتداد به. وحسب معطيات بحث المندوبية السامية للتخطيط، فإن المعدل في هذا الوسط بلغ أكثر من 14 في المائة.
وتبقى البطالة متفشية، حسب نفس المصدر، في صفوف حاملي الشهادات والشباب المتراوحة أعمارهم ما بين 15 و24 سنة. إذ يصل معدلها إلى “%14,5 لدى حاملي شهادات المستوى المتوسط حيث بلغ %23,7 ضمن حاملي شهادات التأهيل المهني، و%22,6 لدى حاملي شهادات المستوى العالي والذي بلغ لدى خريجي الكليات منهم %24,9. كما بلغ هذا المعدل %20 لدى الشباب البالغين من العمر ما بين 15 و24 سنة و%38,9 في صفوف الحضريين منهم، مقابل %9,2 بالنسبة لمجموع الأشخاص البالغين من العمر 15 سنة فما فوق.”
وعلى العموم كان صافي المناصب التي أحدثت هابطا جدا مقارنة مع السنوات، حيث بلغ 29000 منصبا سنة 2015 (طرح عدد المناصب المحدثة من المناصب الذي تم تدميرها) و42000 منصبا سنة 2014 و21000 سنة 2013، ويزيد عدد العاملين منهم كمساعدين عائليين عن 22 في المائة، وهو ما يعني أن صافي مناصب الشغل المحدثة المؤدى عنها أقل بكثير، حيث لم يتعد 6000 منصبا سنة 2015 و1000 فقط سنة 2013.
ولم يكن ذلك ناتجا عن الصدفة أوعن تغير الظرفية فقط، بل إن الحكومة عملت على الدفع في اتجاه تخفيض عرض مناصب الشغل باتباع سياسة لا يمكن أن تكون لها نتيجة أخرى غير هذه النتيجة.
ذلك أنها اتجهت إلى تقليص عدد الموظفين والكتلة الأجرية في الإدارة العمومية بشكل عشوائي ترتب عليه أن عدد المحالين على التقاعد اليوم يتجاوز عدد مناصب الشغل المحدثة في الوظيفة العمومية على العموم، ونتج عنه أن وصل الاكتظاظ في أقسام المدرسة العمومية مستوى غير مسبوق في كثير من المناطق وإلغاء فعليا لتدريس عدد من المواد الدراسية أو تكليف أساتذة من غير ذوي التخصص بتدريس مواد لا يفقهون فيها شيئا أو بقاء مراكز صحية ومستشفيات بلا أطر طبية ولا حتى ممرضين أو ممرضات أو تقنيين وبالشكل الذي أبقى بنيات تحتية وأجهزة صرف عليها مال كثير متوقفة وجعلت بعض الإدارات والمؤسسات تغرق في العجز عن أداء أدوارها أو تقديم خدماتها، بما فيها العدل والمالية والشرطة والسجون والصناعة التقليدية والنقل…، بحيث تعود عدد من الخدمات العمومية القهقري بدل أن ترتقي.
وتكمن خلف هذا التوجه إلى تقليص الموظفين وتحجيم دور إدارات ومؤسسات الدولة إرادة خوصصة كل شيء، بما في ذلك التعليم والصحة اللذان دعا بنكيران، ذات فلتة لسان كشفت المستور، إلى تحرير الدولة من عبئهما.
وبموازاة تراجع التشغيل العمومي، يسجل أن الحكومة بقيت خارج التاريخ لا تعرف ما يحدث من تطور في القطاع الخاص مند زمن بعيد، حيث لا يترتب على الاستثمار، وبالأخص الاستثمار الكبير، خلق مناصب شغل كثيرة بالضرورة، بل إنه قد يؤدي إلى تقليصها في كثير من الأحيان، في حالة التوسيع وإعادة الهيكلة، وهما عنصران غالبان، وذلك بالاستثمار في المكونات الرأسمالية والسعي إلى الرفع من الإنتاجية، وهذا ما حدث في قطاع النسيج مثلا الذي كان مشغلا أساسيا لليد العاملة النسائية أوفي غيره. وفي ظل المرونة المتزايدة تزداد هشاشة مناصب الشغل وموسميتها وتتزايد التجاوزات، التي يعكسها حجم المسجلين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي يعكس تواطؤ تفتيش الشغل الغارق في الفساد، وينفتح الباب على مصراعيه لاستيراد اليد العاملة، كما كشف عن ذلك استيراد داي وو الكورية لمستخدمين من الفلبين. وعدا ذلك لم تعمل الحكومة برؤية واضحة على إخراج قطاع البناء والأشغال العمومية، الذي يعتبر مشغلا رئيسيا، من الأزمة التي يتردى فيها إلى اليوم أو على توفير الدعم اللازم للمقاولات الصغرى والمتوسطة لتخفيض كلفها وولوجها إلى التمويل ووصولها إلى الأسواق وتقوية قدراتها، بحيث بلغ حجم وفياتها في سنة 2015 المنصرمة معدلا غير مسبوق. والقرار الذي اتخذه بنك المغرب بتسهيل تمويل هذه المقاولات مند سنتين لم يفعل كما لم يفعل صندوق الضمان الخاص بها إلا بشكل محدود، وكان الخطاب يقوم مقام الإنجاز والفعل في كل الحالات.
وقد جاء الخطاب الحكومي عن استراتيجية للتشغيل مؤخرا مختلا وديماغوجيا، بحيث أثار السخرية وليس الاهتمام، ففاقد الشيء لا يعطيه.
هكذا، فالفشل في محاربة البطالة هو انعكاس للفشل الشامل لسياسة اقتصادية خارج السياق منصبة على إقناع البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومعهما الغرب أن الإسلاميين جزء من المنظومة الليبرالية المتوحشة وأنهم يمتلكون القدرة لتمرير مالم تستطع تمريره حكومات سابقة خوفا من الغضب الشعبي لأنها تجيد استعمال خطاب منوم للوعي والحواس.
ومن المؤكد أن السنة الحالية، المطبوعة بالجفاف واستمرار أزمة قطاع البناء والأشغال العمومية والتباطؤ في قطاع الخدمات، ستعري هذا الفشل وتجعله يظهر بشكل أوضح.
ana 3andi man9ol walakin khasni natla9a b …
تحليل عميق وجميل وممتع
مقال اكتر من رائع …تحياتي لك.