ملف الأسبوع: الجسد في التصوف.. عنوان للانخراط في الحياة
يحفل الجسد بمعاني تتوارى خلف حضوره المادي، كما يخضع للتطور التاريخي الذي وسّع من آفاقه الدلالية، فلم يعد ينظر له فقط كعنصر مدنس لا قيمة له، بل أصبح عنواناً للانخراط في الحياة بتعبير نيتشه.
فإذا أعلى ديكارت من شأن الفكر وبخس من قيمة الجسد، فبالمقابل أقام سبينوزا علاقة توازن بين الجسد والروح من حيث القيمة، معتبراً أن الاختلاف الوحيد يتجلى من الناحية الإبستمولوجية.
معظم الباحثين والمتصوفين الذين يهتمون بتيمة الجسد في الأدب الصوفي، يؤكدون أنه لطالما كان الجسد مفردة مختلفة ومغيبة في الكثير من المحطات الفكرية والنقاشات لاعتبارات عدة.
ولطالما كانت النظرة إلى الجسد نظرة تطالها مجموعة من الالتباسات، بالنظر لقلة الدراسات الواردة في هذا الجانب، بالإضافة إلى قلة الباحثين المتخصصين في موضوع الجسد وعلاقته بالتصوف.
ومعظم الأبحاث الميدانية التي سلطت الضوء على تمثلات الجسد في التصوف، أفادت أن سيطرة ثقافة المحرّم على آليات الإبداع العربي في جميع تجلياته، كانت واضحة وأنتجت تفاعلات هجينة، الأمر الذي أفرز كتابات تنقصها مجموعة من المحاور والمرتكزات الأساسية.
في هذا الصدد، يفيد الدكتور رضوان مرحوم، الباحث في الأدب الصوفي، أن التعبير والتمثل الجسدي عند الصّوفية ليس غيبوبة ترميهم خارج دائرة الواقع، أو انقطاع عن المعيش اليومي.
“لكنه يعتبر تجسيدا فعليا لوعي خاص، يرتبط بمجموعة المعتقدات الذاتية التي يحتفظ بها الشخص بنفسه وتختلف من واحد لآخر، حيث أنها ترتبط بمجموعة من المحركات والدوافع الروحية غير الملموسة”.
ويضيف أن غيبوبة الصوفي وانفصاله عن العالم الخارجي، أثناء الرقص هو إدراك تام للجمال، حيث نجد أن دهشة الفنان جزء من ذلك الإدراك، والصوفي يرغب في تحقيق التحرر من خلال الخلاص الحسي والارتقاء بالروح نحو الجمال والكمال، بينما الفنان يجسد هذا المطلب اعتمادا على الأبعاد الحسية والملموسة بالدرجة الأولى.
ويفيد المتدخل نفسه، أن الصوفيين، يركزون على الحسّ والمعنى وارتباط الجسد بالروح، ويستحضرون الجمال مستصحبين الإدراك العقلي والقلبي.
وقد أشار لذلك الغزالي قائلا: «إنّ الجمال الحسي يدرك بالبصر والسمع وسائر الحواس، أمّا الجمال الأسمى، يدرك بالعقل والقلب”.
طبقا للعديد من المتصوفين المهتمين بهذا الموضوع المرتبط بتمثلات الجسد في الصوفية، نجد أن اندماج الجسد في التجربة الوجودية والفكرية والتعبيرية المعاصرة يعتبر منعطفا فكريا، وفلسفيا تجاوز من خلاله “الصوفي” حدود الثنائية، ليتحول فيه الجسد إلى موضوع فكري وفلسفي.
ويشير الدكتور مرحوم إلى أن الجسد في العلم الصوفي لم يرق بعد إلى مستوى الموضوع الفكري، إلاّ مع ظهور فلسفات الذات سواء كانت عقلانية، أو حسية ويعزى هذا النقص بالدرجة الأولى إلى غياب الدراسات العلمية التي تهتم بدراسة هذا الجانب.
بهذا المعنى، ترتبط فكرة الجسد ارتباطا وثيقا، بل حتميا بضرورة الحداثة الفكرية والثقافية سواء تعلق الأمر بالأدب الصوفي أو غيره من المجالات الإبداعية والفنية وكذلك الروحية، أي أن التفكير في الجسد مرادفه هو التفكير حول الذات والهوية.