ملف الأسبوع: التصوف والسلطة السياسية بالمغرب..أية علاقة؟؟
تميز تاريخ المغرب على امتداد قرون بانتشار واسع للزوايا الصوفية خصوصا مع بداية القرن 15، موازاة مع بروز ما سُمي بـ”السلطة الشريفة” في عهد السعديين والعلويين وما شهدته فترات حكمهم من علاقات وطيدة مع الزوايا ورموز المتصوفة، وما تم إصداره إلى المشايخ من الظهائر المبنية على الاحترام والوقار وأشكال التكريم والاعتزاز، نظرا لما يشكله وجودهم من دعامة أساسية في إصلاح المجتمع واستقرار الأمة وتدعيما لولاة أمورها من سلاطين وملوك ولمؤسسة “إمارة المؤمنين” بشكل عام، الأمر الذي جعل من الزوايا قديما عبارة عن تنظيمات في الغالب تكون سبّاقة إلى الجهاد ونُصرة الدين ووحدة الوطن ومقدساته، من خلال مقاومة الاستعمار الإيبيري مثلا بعد إستلاءه على المدن الساحلية للمملكة الشريفة حيث تزعمت هاته التنظيمات الهجمات المسلحة ضده وبمساعدة من السلطة أحيانا، على غرار معركة “وادي المخازن” ضد البرتغال والتي تعتبر أكبر تتويج لتحالف الزوايا والسلطة بالمغرب، نتج عنه دحر الإحتلال وتحرير الوطن.
وفي الأثناء فقد لعبت الزوايا الصوفية في علاقتها بالسلطة بالمغرب وسلاطين العرش، عدة أدوار منها ما هو تأطيري واجتماعي وسياسي وثقافي، كما جاء على لسان الباحث بالعلوم السياسية “محمد شقير” في تصريح لـ“برلمان.كوم” بأن هذه الزوايا كانت بمثابة تنظيمات هرمية تبدأ بالشيخ ثم المقدمين والمريدين، المنتشرين بكل ربوع البلاد، وكلما حصل الواحد منهم على إجازة أو إذن من شيخه يتمكن من إنشاء زاوية تكون تابعة لذلك الشيخ وطريقته الصوفية، وهو ما أدى لانتشار الزوايا واسعا وتزايد نفوذها، في ظل تأطريها المكثف للسكان وتوعيتهم وتعليمهم وتثقيفهم، والدليل على ذلك هو وجود الكثير من المكتبات الكبيرة بعدد من الزوايا مثل مكتبة “تمكروت” بإقليم زاكورة، ما ساعد على إنتاج نخبة من الطلبة والمريدين المتمتعين بوعي ثقافي وسياسي وإحاطة بكل المستجدات التي تعرفها البلاد، وحتى الأحداث الدولية والإقليمية يكونون على دراية بها أثناء سفرهم إلى الحج أو لالتقاء شيوخ ومجموعات صوفية بدول خارجية.
ويضيف الدكتور “محمد شقير” في حديثه مع “برلمان.كوم” أن الزوايا الصوفية بالمغرب لعبت أدوارا اجتماعية كذلك ، عبر توزيع المؤونة والغذاء على السكان خاصة بالقرن 15 الذي شهد مجاعة ونقصا حادا على مستوى الغذاء، وكان يقاس إشعاع كل زاوية بحجم زوارها وكمية الإطعام المقدم لهم، والمرافق العمومية المخصصة لإيواء الزائرين ومدى صيت ذلك على الصعيد الوطني واستقطابها وشهرتها بين الناس، كل هذه العوامل مسترسلا الدكتور “محمد شقير” أدت إلى حالة من الصدام بتلك الفترة ومواجهة بين الزوايا والسلطة السياسية آنذاك، كما جرى مع السلطان “مولاي إسماعيل” الذي دخل في صراع مع الزاوية الشرقاوية ما اضطره إلى هدم المقر الرئيسي لها بالقرن 17، ونفس الأمر حدث مع “المولى الرشيد” حيث عرفت هذه الحقبة توترا في علاقة الزوايا مع السلطة بالمغرب، ما شجع الأخيرة على ابتكار ونهج سياسة للتصدي لها إما عن طريق الاحتواء أو الحد من أنشطتها، ما انعكس على الزوايا نفسها فيما بعد ومكنها من لعب أدوار سياسية من خلال شيوخها الذين أصبحت لهم مكانة وصوت مسموع لدى السلطة.
وقال الدكتور “محمد شقير” في اتصاله مع “برلمان.كوم” حول التصوف والسلطة بالمغرب، إن العهد الحديث والمرحلة الحالية قد شهدا تركيزا واهتماما قويا من طرف السلطة بالزوايا والشؤون الصوفية واعتمادها على المجال الديني وتكريس الأمن الروحي للمغاربة، أمام بروز ما يسمى بـ”الصحوة الإسلامية” وظهور جماعات وتيارات دينية خصوصا التيار الوهابي والعدل والإحسان والتوحيد والإصلاح، ما دعا السلطة إلى تقوية التيار الصوفي والنهوض بالزوايا بغاية خلق موازنة في الحقل الديني وحفظه من كل تطرف أو تشدد، علما أن “عبد السلام ياسين” مؤسس جماعة العدل والإحسان المعارضة للنظام السياسي المغربي كان أحد مريدي الزاوية البوتشيشية التي تلعب اليوم دورا محوريا إلى جانب زوايا أخرى في دعم السلطة السياسية والملكية بالمغرب وتعزيز ثوابتها، وهو ما ظهر بمناسبات عديدة، كان أهمها، نزول الزوايا بكل ثقلها للشارع والإعلان عن دعمها الكبير لأول دستور في عهد الملك محمد السادس ودعوة المواطنين إلى التصويت عليه بالإيجاب، لما في ذلك من وحدة للوطن وحفاظا على استقراره وسلامة أراضيه.
وتابع المتحدث أن العلاقة بين الزوايا والسلطة بالمغرب، هي علاقة إلتقاء ومؤازرة ودعم مطلق للشرعية السياسية، ولعل أكثرها تجليا هو تعيين “أحمد توفيق” وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية، الذي يعد في الأصل أحد أتباع الزاوية البوتشيشية والتي انعكس مدى تأثيرها عليه في أجندته الوزارية وقراراته التي غالبا ما تصب في مواجهة خروقات وتجاوزات التيارات الإسلامية والحركات الدينية، بالاعتماد على روح التصوف في تحقيق التوازن الديني والوسطية والاعتدال داخل المشهد السياسي المغربي، وتكريس “الأمن الروحي” المُستلهم من قاموس ولغة المتصوفة، للحد من انتشار الأفكار المتطرفة وحركات السلفية الجهادية أو السلفية المتشددة، وهيكلة المشهد الديني وخلق التوازن والانسجام بمكوناته بما يحفظ أمن واستقرار المجتمع، وهو الذي يتبين اليوم عبر دعم السلطة السياسية لكل مظاهر التصوف وزواياه، وحضور مستشاري الملك والحاجب الملكي للتظاهرات والمناسبات الصوفية التي تحييها الزوايا ومشاركة رجال السلطة من عمال وولاة بالمواسم الدينية والروحية بمختلف جهات وأقاليم المملكة في ظل تغطية قنوات الإعلام الرسمي والقطب العمومي، فضلا عن تشجيع ودمج الكثير من أطر الزوايا المغرية بالمناصب الحكومية وأجهزة الدولة والمؤسسات الإدارية.
وخلص الدكتور “محمد شقير” الخبير الإستراتيجي إلى أن العلاقة بين السلطة والزوايا، أو التصوف بشكل عام، هي علاقة التقائية تقوم على تدعيم الشرعية السياسية والدينية للملك كأمير للمؤمنين، لدرجة أن هذا لم يعد محصورا على الشأن الداخلي، بل تعداه إلى العلاقات الخارحية والدبلوماسية التي تربط المغرب بعدد من الدول، مشيرا إلى رسالة التعزية التي سبق وأن بعثها الملك محمد السادس في وفاة الشيخ السابق للطريقة التيجانية بالسنغال، واستقبال شيخ التيجانيين الحالي بالمغرب وخلال الزيارة الملكية لهذه الدولة الشقيقة، وما حظيت به من تغطية إعلامية مكثفة، نظرا لأهمية الحدث ورمزيته الدينية والسياسية، سيما وأن الزوايا الصوفية تتمتع بحضور قوي بالدول الإفريقية وتلعب دورا مهما في تأطير المواطنين وتدعيم السلطة السياسية خاصة بالسنغال ومالي، ما يشكل تماسا كبيرا بين شيوخ ومريدي تلك الزوايا في علاقتهم مع الملكية بالمغرب ذات النسب النبوي الشريف، الذي يعتبر بالنسبة للمتصوفة عموما أحد المبادئ الأساسية في تعاليمهم ووجدانهم، وذلك باستحضار تواجد ضريح مؤسس “الطريقة التيجانية” بمدينة فاس الذي يقوم مريدوه من كل بقاع العالم بزيارات سنوية والوقوف على ضريحه، ما يزيد من “هالة” الملك محمد السادس سليل النسب الشريف، ناهيك أن الاحتفالات السنوية لذكرى المولد النبوي تعد مظهرا من مظاهر هذا التلاقي بين التصوف والسلطة الشريفة لما يتميز به عن الاحتفالات بالبلدان العربية، والمصنف وطنيا ضمن الاحتفالات الرسمية، وكلها عوامل إعتبرت مساعدة في توطيد وتوثيق العلاقة بين المتصوفة والسلطة السياسية بالمغرب وتدعيمها واستمراريتها.