مأزق الإصلاح الجهوي بين التصور المغربي والتصور الفرنسي
خالد لمرابط
مازال النقاش بين مختلف الفعاليات السياسية والمدنية حول مسألة الجهوية يتصدر المواضيع المطروحة على الساحة العمومية السياسية والأكاديمية بالمغرب فمنذ صدور دستور 2011 الذي حددت فصوله مقومات مشروع الجهوية الموسعة بالمغرب والذي يحتاج إلى مجهودات كبيرة قادرة على إنجاحه. فهذا الفضاء الترابي الواسع والذي ينتظر أن يكون المتنفس الاقتصادي والسياسي للدولة على حد سواء ، مازال محتاجا للتدقيق الواضح من أجل انطلاقه الفعلي لاسيما فيما يخص خلق نوع من الانسجام بين الهاجسين المحوريين لمستقبل هذا الفضاء الترابي والمتمثلين في الجانب السياسي والاقتصاد.
فكلا الهاجسين يأخذان بعدا خاصا على المستوى الجهوي لأنهما يشكلان التصور الذي يجب أن يحسم في مدى التباعد أو التقارب بين الدولة والجهة في غمار استكمال بناء الدولة الحديثة المرتكزة على مقومات اللامركزية والتي تختلف باختلاف الأنظمة السياسية التي تأخذ بها وتباين بنياتها ومؤسساتها السياسية؛ فكل دولة تحاول البحث عن صيغ توافقية لهذين البعدين الجوهريين لتحديد مجالات تدخل المؤسسات المركزية للدولة بمختلف أجهزتها الداخلية والخارجية وما يجب أن يؤول تدبيره للمستويات الترابية الأخرى خاصة الجهة.
ففي الوقت الذي حاولت فيه فرنسا تركيز مجهودها على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية بالجهة الفرنسية لدعم تنافسية اقتصادها وحسن توزيع خيراتها وإنتاجها بين المناطق والجهات الفرنسية، منذ أن انطلقت أولى النصوص المتعلقة بجعل الجهة محورا في الإصلاح الترابي بفرنسا والتي جاءت ما بعد إصلاحات 1980ثم 1982، مازال المغرب يسعى لدعم المقومات السياسية بالاعتماد على الجهوية المتقدمة التي يراهن عليها لربح رهان السياسي والاقتصادي في نفس الآن، وهو ما يجعل مسألة الإصلاح الجهوي بالمغرب مرتبط بالانطلاقة السليمة لهذا المشروع حتى يتسنى له تحقيق مختلف الأبعاد المنتظرة، وهذا ما استوعبته كلمات صاحب الجلالة في خطاب التاريخي يوم 6 نونبر 2008 بقوله” لذلك قررنا بعون الله، فتح صفحة جديدة في نهج الإصلاحات المتواصلة الشاملة التي نقودها بإطلاق مسار جهوية متقدمة ومتدرجة، تشمل كل مناطق المملكة، وفي مقدمتها الصحراء المغربية..”.
ولإبراز مكنون كلمة مأزق الواردة في العنوان بالنسبة للتجربتين المغربية والفرنسية سنحاول التطرق للنموذج الفرنسي الذي حاول دمج الجهة في صلب الانشغالات الاقتصادية والاجتماعية والتي ما زالت قيد الاشتغال من طرف الحكومة الفرنسية الحالية، ثم نروم إلى ما يصعب تقدم بلدنا فيما يخص الجهوية الموسعة.
ما ينتظره الاقتصاد الفرنسي من إصلاح الجهات الفرنسية؟
لقد كان للإصلاح الترابي، والذي عززت به فرنسا بنيتها السياسية والإدارية في ظل مسار اللامركزية، والذي عرف قاعدة صلبة لممارسة ديمقراطية القرب منذ بداية الثمانينيات، الأثر البالغ في وضع الجهة الفرنسية على النحو السليم على غرار النموذجين الاسباني والإيطالي، كمستوى ترابي رائد لتدعيم الجانب الاقتصادي للجهات وتسريع مقومات اللامركزية بهذا البلد. ففي إطار دينامية الصلاح التي تبحث عنها فرنسا، مازال ورش الجهة مفتوحا على مصراعيه من طرف الحكومة الفرنسية
وذلك من أجل ربح التحديات التي تواجهها فرنسا في ظل احتدام الأزمة وتراجع الاقتصاد الفرنسي مقارنة بباقي الدول الأوربية وفي ظل صعود أقطاب اقتصادية أخرى؛ فهي تحاول إدماج المقاربة الجهوية في مختلف البرامج الإصلاحية التي تتبناها لبلوغ هذه الأهداف.
فخلال اليومين الأخيرين أبدت فرنسا رغبتها في تعزيز تنافسية اقتصادية وخلق دينامية جديدة لمقاومة المشاكل الاقتصادية التي تتعرض لها عبر إصلاحات تعتمد في جوهرها على المقاربات الترابية خاصة على مستوى الجهة. فقد أكد في هذا السياق كاتب الدولة الفرنسي المكلف بالإصلاح الترابي السيد “اندري فليني” أن الإصلاحات التي تتطلع بها فرنسا لدعم تنافسية الاقتصاد الفرنسي بناء على الإصلاح الترابي والجهوي الذي تدرسه الحكومة الحالية سيمكّن فرنسا من ربح عشرات المليارات للاقتصاد الفرنسي على المدى المتوسط ، حيث يتوقع “فليني” أن تربح فرنسا ما بين 12 و25 مليار أورو سنويا. لكن هذا التصريح قوبل بانتقاد كبير للمثلي الجهات الفرنسية حيث صرح رئيس جمعية الجهات الفرنسية السيد “ألان روسي” أن هذه الأرقام لا تستند للصحة، هذا الرأي جاء معززا برأي رئيس جمعيات المحافظات الفرنسية السيد “كلود ليبيرتون” الذي شكك من جهته في هذه الأرقام، بل أكد على خلاف ذلك وجود دراسة للمجلس الأعلى للحسابات الفرنسي تثير الأرباح الحقيقية التي يمكن أن تربحها فرنسا في حالة حذفها للمحافظات بالتنظيم الفرنسي المتوقع في أفق 2020.
أية قاعدة يمكن أن يبني المغرب مشروع الجهوية الموسعة؟
لقد أصبح التنظيم الترابي للمملكة مرتكزا على الجهوية المتقدمة بمقتضى الدستور الحالي الذي أعطى مكانة خاصة وتوجها بالصدارة على باقي المستويات الترابية. لكن في المقابل الجهة الحالية التي تدرجت من جهات اقتصادية في الثمينينات، الذي هو زمن الإصلاح الترابي الفرنسي، إلى جماعات ترابية بنص دستور 1992 لتحوز الإطار التنظيمي لها بعد صدور قانون 47-96 ثم توجت بإصلاحات جوهرية في الدستور الحالي. لكن دون الخوض فيما تحدث عنه متخصصين كثر في تناولهم لهذه السياقات التاريخية، أود الإشارة إلى طغيان وغلبة الجانب السياسي على هذا الإصلاح؛ فهو يلقي بضلاله على مختلف المواضيع التي تهم الجهة المغربية ويؤثر سلبا في الحسم في الترسانة القانونية التي تتناول الجهة. فبعد مرور ما يقارب الثلاث سنوات على الوثيقة الدستورية مازالت النصوص التنظيمية المتعلقة بالجهات والجماعات الترابية لم تراوح مكانها ومازال الخناق يشتد مع اقتراب آجال الانتخابات المحلية التي أكدت الحكومة أنها يتكون في مواعيدها المحددة. يضاف إلى ذلك عدم وجود قراءة موضوعية لمقترحات اللجنة الاستشارية للجهوية الموسعة التي حاولت إبداء قاعدة لبناء تصورات تستوعب مختلف الأبعاد التي تؤثر في هذا المشروع.
ففي ظل غياب هذه القاعدة، التي يجب تقوم عليها الجهوية الموسعة بالمغرب، يظل الاصطدام قائما بين مختلف هذه الأبعاد والمقاربات والتي يجب الأخذ بها في شموليتها دون التغاضي عن أية جانب أو الانغماس في جانب على حساب آخر. ويعتبر التقسيم الترابي أول مرتكز في هذه المسألة فتقسيم التراب هو الوعاء الكفيل بضمان مجال ترابي مبني على تنمية مندمجة. فبالرغم من كونه لايعدو أن يكون إطارا لممارسة الاختصاصات الجهوية في المستقبل فهو يثر إشكالية الانسجام بين ما هو سياسي وتقني وإداري في تحديد المجالات الترابية والتي تختزن في عمقها مختلف المظاهر السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية.
الخيارات المطروحة لانطلاق مشروع الجهوية الموسعة بالمغرب
فالمغرب يبقى أمام خيارين لا ثالث لهما إما تقديم جهويات موسعة تبنى على نفس المقومات التنظيمية للجهة كما هو بالنسبة لفرنسا والتي تذيب مختلف الجهات في نسيج من المقاربات الاقتصادية والاجتماعية وتحمل في ذلك الفئات المحلية مسؤولية مباشرة لتدبير الشؤون الجهوية عبر تعزيز هامش حرية تدبير الشؤون المحلية والذي يطلق عيه مبدأ التدبير الحر، بحيث يتولى رجال السلطة المركزية دور الرقابة الإدارية كما نص على ذلك الفصل145 من الدستور المغربي، أو تعزز مقومات الجهات الجنوبية ومنحهم سلطات خاصة أكثر انفتاحا يحتوي على مختلف محاور الحكم الذاتي كما قدمه المغرب، مع السير بتروي فيما بقي من الجهات والتي تحتاج إلى نفس القدر من الديمقراطية المحلية التي تسير عليه باقي الجماعات الترابية الأخرى خاصة على مستوى المدن الكبرى باعتبار أن قدرات ومقومات التدبير عند المنتخبين المحليين لا تختلف مهما زادت مكانة وأهمية المستوى الترابي. وفي هذا الإطار لابد من سمو الوحدة الترابية للملكة باعتبار أن التكامل بين الالمركز والمحيط لاسيما بالنسبة للجهات لا يمكن أن يخرج بأي حال من الأحوال عن فكرة الوحدة التي هي دعامة الدولة الموحدة، وهذا كرسته معظم الدول الرائدة في تدبير الجهات خاصة اسبانيا وإيطاليا.
فهذه الخطوة هي بمثابة الخروج من عنق الزجاجة الذي يجب أن ينسج قوانين تبسط إدماج الجهة في التنظيم المغربي، الذي عليه أن يرتقي عن الهاجس السياسي الذي يجب أن يميز بين الجهات الجنوبية ذات الطابع الخصوصي بشكل لا يؤثر على بنيات باقي الجهات الأخرى، على غرار التجارب الفرنسية والاسبانية والايطالية التي أعطت الطابع الخصوصي لجهات دون أخرى لتنقيح ما هو تنظيمي عن الهاجس السياسي.
إذا كانت فرنسا تحاول المضي قدما في إصلاحها الترابي بنوع من الحذر خاصة فيما يخص النتائج والآثار المنتظرة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، فالمغرب الذي يقتف أثر نظيره الفرنسي يحتاج لقاعدة صلبة مبنية على سياسات أفقية ومندمجة لجعل هذا المستوى الترابي في مستوى الرهان المنتظر. وهذا لن يتم إلا إذا تم الحسم في حدود السياسي بالتقني وتأهيل النخب السياسية وجعلها في مستوى هذه الانتظارات؛ إذ يبقى منطق التدرج معطى جوهري لجعل الانتقال من خطوة لأخرى يحمل ضمانات النجاح ، مع ضرورة إشراك النخب المحلية باعتبارها ذات قدرات مهنية وميدانية مختزنة لمعطيات النجاح والفشل على مرور المسلسل الذي قطعه المغرب في هذا المجال.