كيف تجذّرت الطقوس الفنية المغربية في دنيا الاغتراب لتصبح جزءا من الموروث الثقافي الفرنسي
هناك ما يشبه اليقين لدى النخب المثقفة الفرنسية (الأنتيلجنسيا) بأن الموروث الثقافي المغربي من فنون وطقوس احتفالية مازجة بين ثقافة عريقة متوارثة ولمسات حديثة متطورة، آخذ في التأصل في البيئة الفرنسية كجزء من موروث فني قد يتجذر مع تلاحق السنين في النسيج الثقافي والاجتماعي الفرنسي ضمن عملية تلاقح وانصهار تعتمد مرجعيات فنية غزيرة ومتنوعة، قادمة من الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط.
أمثلة كثيرة عن أسباب هذا التلاقح يمكن حصرها على الخصوص في تدفق أجيال من المهاجرين المغاربة على فرنسا منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي حاملين معهم أمتعتهم وحقائب أسفارهم وأيضا طقوسهم الثقافية والفنية كجزء مهم من ملامح الإنسان المغربي وقسماته وأسلوب عيشه وتقاليده. فالمهاجرون لا يحملون مجرد حقائب أسفار وإنما يحملون أيضا كنوزا ثمينة من الطقوس والتقاليد التي تشكل خزانا تراثيا متراكما بكل تنوعاته وتناقضاته يتفاعلون في سياقه تأثرا وتأثيرا، مع محيطهم الجديد.
ومن أبرز سمات تأصل الموروث المغربي في البيئة الاجتماعية الفرنسية، تقاليد العمّارية وبعض المهن المرتبط بها مثل النكافة والنقاشة وغيرها من المهن العُرسية التي تلقى تهافتا متزايدا من لدن مئات العرائس الفرنسيات اللواتي دأبن منذ عقدين أو يزيد على تخليد زفافهن الذي يشكل فرحة العمر الأهم، على الطقوس التقليدية المغربية المقرونة بعادة حملهن فوق “العمارية” والطواف بـهن على إيقاع مغربي راقص بأنواع مختلفة من “التكشيطات” قبل أن تُجسدن باقي اللوحات العُرسية الأخرى في أجواء من التعابير والطقوس الاحتفالية العريقة.
فليس بعض نجوم الكوميديا والرياضة والسياسة المغاربة المتجنسين بديار الاغتراب بفرنسا، وحدهم مع زوجاتهم من حُمّلوا في العمارية ليلة زفافهم، من أمثال الكوميدي جمال الدبوز وزوجته الإعلامية ميليسا توريو، ووزيرة التربية الوطنية سابقا، نجاة بلقاسم، وزوجها القيادي الاشتراكي، بوريس فالو، وغيرهم.. فهناك عشرات المئات من العرائس الفرنسيات ممن يعشقن اليوم الطواف فى الهودج العُرسي المغربي المزركش بتطريزات حريرية وزخارف منسوجة من الذهب، وبسواعد شبّان من مختلف الأعمار يرقصون على أنغام وإيقاعات الموسيقى المغربية المازجة بين العصري والفولكلوري.
وقد اكتسحت طقوس العمارية بشكل واسع منذ عقدين أو يزيد الكثير من المدن والمناطق الفرنسية، وتجاوز مداها فضاء الأزواج المغاربة المتجنسين لتشمل الأوساط الفرنسية بمختلف فئاتها، وهو ما يقوي التخوف لدى بعض النُّخب اليمينية المتظرفة من أن تغدو الطقوس الزواجية المغربية، شيئا من الموروث العُرسي الفرنسي، وربما جزءا من الموروث الاجتماعي الذي قد يصبح سمة من سمات الحياة الفرنسية.
وبحكم الإقبال المتزايد عليها في الوسط الفرنسي الذي أخذ منا طقوس “العمارية” على نغمات الموسيقى الشعبية، واستوردنا منه طقوس حمل العرائس في سيارات مكشوفة فاخرة على نغمات الديسكو، فإن هذه المظاهر الاحتفالية المغربية اكتسحت المشهد العُرسي الفرنسي بتزامن مع نشوء مهن ملازمة لها مثل مهنة طرب الأعراس والنقاشة والنكافة ومُعدي المناسبات الاحتفالية المختلفة.
وفي السابق كان بعض المتعهدين الذين كسبوا أموالا طائلة من طقوس “العمارية”، يلجأون إلى تعهد “الحنايات” و”النكافات” وبعض المطربات، ويتولون بأنفسهم مهمة الحصول على تأشيرات وتأمين نفقات الإقامة والسفر. ويعمدون اليوم إبرام عقود مباشرة مع النكافات المحليات ممن يتمتعن بخبرة وكفاءة عالية.
ويتزامن الإقبال على العرس المغربي مع تزايد أعداد معدي الطبخ ومصممي الأزياء التقليدية “التكشيطة” وديكور الأعراس والمختصين فى فن التجميل ونقاشات الحناء التي لها ميزة خاصة في الطقوس الاحتفالية التي ترافق الزفاف المغربي، إضافة إلى النساء اللواتي ترافقن العروس في كل حركاتها من المنزل إلى الحمامات التقليدية المغربية المتواجدة بوفرة في فرنسا.
ويتراوح عدد الأعراس المقامة بطقوس مغربية ما بين 400 إلى 500 عُرسا بباريس والضواحي التي يسكنها 15 مليون نسمة، فيما تتراوح التكاليف ما بين 5 آلاف إلى 6 آلاف أورو، حسب نوعية الملابس ورغبة العروس في الظهور بالشبكة الذهبية الخالصة أو استبدالها بإكسسوارات ذهبية اللون فقط.
جانب ثاني من الطقوس الفنية التي اكتسحت بشكل متميز البيئة الاجتماعية والفنية الفرنسية، مرتبط بالطرب والرقص الحاضرَين في الكثير من المقاهي والمطاعم المغربية وحتى الفرنسية، حيث الغناء والرقص الشعبي من أهازيج وطقطوقة جبلية ورقصات أطلسية وغيرها، أصبحا حاجة ملحة بالنسبة للجالية المغربية لتكسير حالات الإحباط والاكتئاب الشائعة في الوسط الاغترابي، وأيضا للفرنسيين ممن تستهويهم الطقوس الفنية المغربية ومعها الطبخ المغربي الذي يضعونه في المرتبة الثانية عالميا بعد الطبخ الفرنسي، حسب استطلاع نشرته صحيفة “لوفيغارو” قبل شهرين بعنوان “الطبخ المغربي كشّاف حضارة”.
ومن فرط الإقبال على مقاهي الطرب والغناء والرقص المغربية التي تكاثرت بشكل غير مسبوق بباريس وضواحيها، وتحت الرواج الذي لقيته تلك الطقوس الفنية لدى الساكنة الفرنسية، اجتهدت هذه الأمكنة في إحداث تغييرات على شكل بنائها الهندسي بحيث وفرت في المقهى أماكن خاصة للرقص أشبه بخشبة المسرح، وتحوّل بعضها فعلا إلى ملهى ليلي، مثل مقهى “عطور المغرب” (Les saveurs du Maroc ) التي تحوّل اسمها إلى ملهى “الركن الدافئ” (Le coin chaud) ومقهى “مراكش” التي أصبحت تعرف بنادي “العبّاسيات” (Les Abbasides) الذي تتناوب عليه شابات من شمال المغرب لتقديم لوحات جبلية، وأخريات من مناطق الأطلس في لوحات أحيدوسية ممتعة إلى جانب مطربات وراقصات تحترفن الرقص العصري والشرقي.
واليوم في باريس كما في المدن الفرنسية الكبرى، بات المطربون والراقصات المغاربة يغطون العديد من المطاعم التي أصبح لكل واحد منها مطربه أو مطربته وراقصته المفضلة وفرقته الشعبية وجمهوره الخاص لدرجة يصعب معها على رواد السهر الفرنسيين ومن أجناس أخرى أن يجدوا مكانا خاليا في نهاية الأسبوع