ذكريات رائد الرواية العربية الحديثة، يوسف القعيد، مع عميد الروائيين العرب نجيب محفوظ..
أول دراسة أُنجزت في أوربا عن ثلاثية نجيب محفوظ كتبها المستشرق الفرنسي جاك جومييه، ونشرت عام 1957. وأول من قاد ودعم مشروع نيله جائزة نوبل للآداب، فهما الفرنسيان جاك بيرك وأندريه ميكيل. وهو ما يعني تغلغل العطاء الروائي لنجيب محفوظ إبداعا وإنتاجا في الآداب الفرنسية أولا، ثم في الآداب الغربية بشكل عام، على الرغم من المنافسة القاهرة التي أغلقت في وجه الأديب العربي على مدى نصف قرن، كل نوافذ الانصهار والتفاعل مع الثقافات العالمية. بهذه المقدمة الخبرية مهد الأديب والمفكر يوسف القعيد للندوة التي نظمتها أول أمس بباريس جمعية “ثقافات من العالم” بتنسيق مع المركز الثقافي المصري، تحت عنوان “ذكرياتي مع نجيب محفوظ”، ضمن سلسلة الندوات التي تنظمها عن الأهرامات الأدبية العالمية.
المراد من هذه المقدمة، حسب يوسف القعيد، هو التأكيد على أن جائزة نوبل جاءت متأخرة ثلاثين سنة على الأقل، ولولا انخراط أدباء فرنسا في الترويج للعطاء المتعدد والبذل المتجدد لنجيب محفوظ سواء في المحافل الثقافية العالمية، أو من خلال ترجمة أعماله إلى اللغة الفرنسية ثم إلى اللغات الأخرى، لما تأتى له نيل الجائزة عام 1988.
وقبل الخوض في ذكرياته الطويلة مع نجيب محفوظ الذي لازمه لعدة عقود، ارتأى المحاضر التوقف هنيهة عند الإنتاج الثقافي العربي بأشكاله المختلفة، والذي قال عنه أنه “لم يؤثث لنفسه هامشا ولو ضيقا في رفوف الخزائن والمكتبات العالمية، حيث نسبة حضور المنتوج الأدبي العربي لا تتجاوز 0،5 في المئة ضمن الإنتاجات العالمية، بينما لا تمثل الإصدارات الصحفية العربية (جرائد، أسبوعيات، مجلات متخصصة…) أزيد من 0،2 بالمئة من الإصدارات العالمية. ولأن نفوذ الغزو الأدبي والفكري واسع ومردوديته مربحة، فإن الدول الغربية نفسها، يقول القعيد، تخوض منافسة قوية لكسب الرهان، وإن كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد حسمت المعادلة لحسابها، على اعتبار أن نصف عقول أوروبا (53 في المئة) من كبار المثقفين والأدباء والباحثين في شتى المعارف هاجروا إلى الولايات المتحدة.
وعن صلاته بنجيب محفوظ، يعود يوسف القعيد إلى مرحلة الطفولة حين لفت انتباهه وهو في الثانية عشرة من عمره أن روايات محفوظ كانت تحمل عناوين المكان الذي يعيش فيه: قصر الشوق وبين القصرين وخان الخليلي. فقد كان يسكن في حارة تتفرع من شارع قصر الشوق، عنوان الجزء الثاني من الثلاثية.
“أول لقاء لي معه كان يوم أربعاء من شتاء 1959 وكنت في السادسة عشرة من عمري أمشي في شارع عبد الخالق ثروت، فرأيت الكاتب الكبير قادما من ناحية ميدان العتبة، فعرفته من الصور التي كانت تنشر له في الصحف. ولن أنسى أبدا الموعد الذي أعطاني إياه في مقهى تملكه الراقصة بديعة مصابني. وقد اكتشف القعيد الذي كان يعتبر آنذاك الجلوس في المقهى نوعا من الخمول والفساد، أن أهم مكان يعلم الإنسان الحياة هو المقهى. وهكذا ابتدأت اللقاءات واستمرت العلاقة عبر مقاهي القاهرة ولم تنتظم في بيته إلا في السنوات العشر الأخيرة بعد حادث الاعتداء عليه.
واستحضر القعيد المجالس الأدبية المنتظمة التي كان يعقدها نجيب محفوظ مع نخبة من رجال الأدب العرب والمصريين لمناقشة كل جديد في الكتابة السردية العالمية، والوقوف على الاتجاهات الأدبية الجديدة التي كانت تتطور أسرع مما هو عليه الآن رغم وجود الانترنت و”الفيس بوك” و”التويتر” حيث كان الكتاب يظهر في باريس ويترجم في مصر بعد شهر.
وأجلت الندوة الصفات الإنسانية التي كان يتحلى بها عملاق الرواية العربية حيث ركز يوسف القعيد وهو واحد من رواد الرواية العربية الحديثة، على السمة الليبرالية المنفتحة التي كانت تميز فكر نجيب محفوظ حيث يمكن أن يختلف معك بالرأي من دون أن يؤدي ذلك إلى كراهية أو تصادم. ويقول يوسف القعيد “إن محفوظ لم يكن ينافق الرأي العام حتى وإن كنت أختلف معه في بعض الأمور السياسية. فقد كان من أعنف منتقدي ثورة 52 وحمل بشدة على الأجواء غير الديمقراطية في تجربة عبد الناصر التي أدت إلى هزيمة 67، وكان مؤمنا بالعدالة الاجتماعية والعدالة الإنسانية، وناقدا لنظام السادات رغم أنه كان معجبا بالرجل، ولنظام مبارك حتى وإن لم يهاجمه جهرا”.
أما حب العمل فكان السمة الأساسية في سلوك محفوظ الذي كان “لا يحكي عن كتاباته، وعندما تأتيه فكرة رواية كان يقول “عندي شغل” وهو ما يعني بالنسبة لنا أنه منغمس في رواية جديدة”، يقول يوسف القعيد قبل أن يشيد بتواضع الرجل وبقيم الحب والتعايش التي كانت تسكنه وأتاحت له نسج شبكة واسعة من العلاقات التي كانت تجمعه بالناس من مختلف الأجناس..
كان مشروع “المزارات المحفوظية” ويتعلق بوضع لافتات وإشارات على جميع الأماكن التي تردد عليها نجيب محفوظ، غال على قلب يوسف القعيد الذي اقترح تحويل زقاق المدق في القاهرة القديمة إلى محمية ثقافية وتسجيل الأماكن المرتبطة بمحفوظ مثل المقاهي التي ارتادها والبيوت التي أقام فيها على أن يتم ترميمها والتعريف بها، وتحديث الأماكن التي عاشت فيها شخصيات روايات نجيب محفوظ التي دخلت الأدب الإنساني في العديد من اللغات.