يرى المراقبون أن الجولة الملكية الحالية في عدد من بلدان شرق إفريقيا، تمثل منعطفا حقيقيا في النشاط الدبلوماسي للمغرب، خاصة على مستوى دول شرق القارة، ليس من حيث توقيتها وبعدها الجغرافي فحسب، بل أيضا من حيث مضمونها الاقتصادي وبعدها السياسي، في أفق عودة المملكة إلى احتلال مقعدها في الاتحاد الافريقي.
ومن هذا المنظر، يمكن اعتبار الزيارة الناجحة للملك محمد السادس لرواندا ، المرحلة الأولى في هذه الجولة ، وما أثمرته من نتائج باهرة على المستويين السياسي والاقتصادي ، منعطفا لما ينتظر أن يكون عليه التحرك الدبلوماسي المغربي في السنوات القادمة.
وإذا كانت المملكة قد وضعت، منذ السنوات الأولى لجلوس الملك محمد السادس على العرش، افريقيا، في مقدمة سلم أولويات السياسة الخارجية ، وظهر ذلك جليا من خلال الاهتمام بتطوير التعاون مع بلدان غرب القارة ، فان منطقة شرق إفريقيا الناطقة بالإنجليزية ، لم تحظ بالاهتمام اللازم من قبل الديبلوماسية المغربية ، على الرغم من الثقل الذي تمثله هذه البلدان على المستويين الاقتصادي والسياسي للقارة السمراء .
وبالرجوع إلى خطاب العرش الأخير (30 يوليوز 2016) ، يمكن أن نلتقط إشارة قوية لما كان يحضر آن ذلك في الكواليس من خطط لاقتحام الدبلوماسية المغربية لمنطقة شرق إفريقيا ،امتدادا للاستراتيجية التي وضعت من قبل في هذا المضمار.
فقد جاء في الخطاب ، الذي وجهه الملك محمد السادس إلى الشعب المغربي ، بمناسبة الذكرى17 لجلوسه على العرش ،أن المغرب “لا يدخر أي جهد ، في سبيل تدعيم الشراكة الاستراتيجية التضامنية جنوب – جنوب ، و خاصة مع أشقائنا الأفارقة ، سواء على الصعيد الثنائي ، أو في إطار المجموعات الإقليمية ، لدول غرب إ فريقيا”.
وأضاف العاهل المغربي، “(…) وتعزيزا لهذه السياسة الإفريقية الصادقة ، أعلنا خلال القمة الإفريقية السابعة والعشرين ، عن قرار المغرب بالعودة إلى أسرته المؤسسية الإفريقية . (…) كما سيتيح ذلك للمغرب الانفتاح على فضاءات جديدة ، خاصة في إفريقيا الشرقية والاستوائية ، و تعزيز مكانته كعنصر أمن واستقرار ، وفاعل في النهوض بالتنمية البشر ية ، والتضامن الإفريقي”.
وبذلك تتجلى بكل وضوح معالم الاستراتيجية الجديدة التي أصبح المغرب، منذ عقد ونيف، يتبناها في علاقاته مع دول القارة، ومثلت دول غرب إفريقيا ووسطها المرحلة الأولى من هذه الاستراتيجية، التي يحرص الملك شخصيا على متابعة مراحلها.
بعد عقود من الجمود والغياب التام ، أو في أحسن الأحوال، الاكتفاء بالتمثيل البروتوكولي ، وهو غياب ، سرعان ما استغلته الجزائر، بما راكمته من ملايير البترودولار،لتسويق أطروحتها الانفصالية الرامية إلى إنهاك المغرب ،من خلال صنيعتها ، جبهة البوليساريو الانفصالية وجمهوريتها الوهمية ، لدى العديد من بلدان القارة ، (بعد كل هذا) ، ها هو المغرب يعود بقوة إلى مختلف مناطق إفريقيا ، وفق خطة متدرجة ومقاربة عقلانية تقوم على التعاون والشراكة الاقتصادية ، من أجل تحقيق أهداف سياسية تصب في نهاية المطاف في الدفاع على الوحدة الترابية للمغرب ، وتعمين التعاون مع بلدان القارة .
ولعل النتائج الإيجابية، التي حققتها حتى الآن هذه المقاربة الجديدة في بلدان غرب القارة ووسطها ، من حيث العمق الذي أصبحت تتميز به العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين الرباط والعديد من هذه الدول ، فضلا عن الوتيرة المتصاعدة للتواجد الاقتصادي المغربي فيها ، يؤكد نجاعة هذه الاستراتيجية التي تبناها المغرب في سياسته الخارجية مع افريقيا.
استراتيجية ، تستهدف النهوض بالإنسان الافريقي اقتصاديا واجتماعية ، من خلال اعتماد نماذج جديدة ومبتكرة للشراكات تقوم على التعاون “جنوب-جنوب” وصيغة “رابح-رابح”، وراعي البعد الاجتماعي ، ويرعاها العاهل المغربي شخصيا من خلال جولاته الميدانية المتكررة .
ومن تجليات نجاح هذه المقاربة الجديدة والنتائج الباهرة التي حققتها في العديد من الدول، من بينها على سبيل المثال السينغال والكوت ديفوار والغابون والكاميرون وغينيا بيساو وغيرها ، حيث أصبح للرأسمال المغربي البشري والاقتصادي تواجدا قويا وفي منحى تصاعدي ، من خلال النشاط البنكي والاستثماري لعدد من البنوك المغربية والمستثمرين ورجال الاعمال المغاربة ، وهي أنشطة تشمل قطاعات حيوية من بينها الفلاحة والسكن الاجتماعي والاتصالات والتكوين والطاقة ، والتنمية البشرية والأمن وغيرها .
ويرد المتتبعون سر نجاح هذه الرؤية المغربية الجديد اتجاه إفريقيا إلى عدة عوامل من بينها ، الإرادة القوية للعاهل المغربي في تجاوز كل المعوقات وتذليل الحواجز البيروقراطية ، وتدخل الدول من أجل توفير الاطار القانوني المناسب للتعاون الثنائي مع كل من هذه البلدان ، وتوجيه القطاعات الحكومية بشتى أذرع الدولة ، الاقتصادية منها والمالية وتلك المسؤولة عن التنمية البشرية ، مثل المكتب الشريف للفوسفاط ومخطط المغرب الأخضر ومؤسسة محمد السادس للتنمية المستدامة التضامنية ، للنخراط في مشاريع اقتصادية وأخرى تضامنية تستفيد منها شرائح كبيرة من المواطنين في تلك الدول.
وبالقاء نظرة خاطفة على ترسانة الاتفاقيات ومذكرات التفاهم ، التي تم توقيعها خلال الزيارة الملكية لرواندا ، المرحلة الأولى من جولة الملك بدول شرق افريقيا ، والتي تجاوز عددها العشرين وثيقة، منها اتفاقيات حكومية وأخرى تهم الفاعلين الاقتصاديين والقطاع الخاص بالبلدين ، نلمس أهمية البعد الاستراتيجي لنموذج علاقات التعاون التي بدأ المغرب ينسجها مع بلدان شرق القارة الافريقية.
فهي تغطي عدد من المجالات الحيوية ، التي راكم فيها المغرب تجارب مهمة ، أصبحت تشكل نموذجا يحتذى به، سواء في المجال الأمني ومكافحة الإرهاب وقطاعات الفلاحة والإسكان والتكوين المهني والقطاع المالي والضريبي والبنكي ، والتكنولوجيات الجديدة والملاحة الجوية والسياحة والطاقات المتجددة، فضلا عن تعزيز الإطار القانوني الذي يؤطر التعاون بين البلدين، وكذا تأسيس آلية للتشاور السياسي بين الدولتين.
كما كان لافتا مستوى الحفاوة وحرارة الاستقبال الذي خصصه الرئيس بول كاغامي وحكومته، للملك محمد السادس والوفد رفيع المستوى المرافق له ، والذي في حد ذاته يعكس ، بما تضمنه من قيادات نافذة في القطاعات السياسة والاقتصادية والمالية والأمنية، أهمية هذه الزيارة التاريخية وبعدها الاستراتيجي، الذي لا تخطئه العين.