مما لا ريب فيه أن المغرب أصبح رائدا على المستوى الإفريقي في مجالات عدة، بفضل المشاريع المهيكلة والمخططات التي أطلقها وأشرف على إنجازها الملك محمد السادس على امتداد العقدين الأخيرين.
فمن أكبر ميناء متوسطي بطنجة إلى محطة نور للطاقة الشمسية بورزازات إلى قطار البراق فائق السرعة، ناهيك عن جسر وبرج محمد السادس، أصبح المغرب متفردا بهذه المشاريع قاريا، ونموذجا للدولة الصاعدة التي تشق طريقها نحو التقدم بخطى ثابتة.
وهناك مشاريع أخرى ومنجزات لا تقل أهمية عما ذكر سلفا، من مثيل الطرق السيارة التي أصبحت تربط بين مدن متباعدة وتوسعة الموانئ وتحديثها، بالإضافة إلى المطارات وتهيئة المدن والمراكز الحضرية الصغرى والمتوسطة. دون إغفال ربط القرى والمداشر بشبكتي الكهرباء والماء الصالح للشرب.
وبقدر ما أن المشاريع المهيكلة تعد استثمارا في المستقبل، فقد واكبها الملك محمد السادس، بتوجيه بوصلة المغرب نحو القارة الإفريقية، بمنطق الشراكة التي تتأسس على تقاسم الخبرات والخيرات والمنافع بين شعوبها، في إطار التعاون جنوب جنوب. وهذا ما جعل جلالته يؤكد غير ما مرة أمام رؤساء وقادة الدول الإفريقية بأن ثروات القارة ينبغي أن يستفيد منها أبناءها.
هكذا إذن تمكن الملك محمد السادس من تغيير ملامح المغرب في ظرف وجيز، وهو يتنقل بين شمال المغرب وجنوبه ومن شرقه إلى غربه، فمن يتذكر كيف كانت مدن الشمال ومدن الشرق وكيف أصبحت اليوم، سيعرف قدر المجهودات التي بذلت بتعليماته وإشرافه الشخصي على مشاريع الهيكلة وإعادة الاعتبار لمناطق طالها التهميش والحرمان طيلة عقود من بعد استقلال المغرب.
لكن وبالمقابل، لم تجارِ الحكومة والبرلمان بغرفتيه والجماعات الترابية باعتبارها مؤسسات تنفيذية وتشريعية، دينامية المشاريع الملكية، إن لم نقل أنها كانت أبعد من أن تخلق الإضافات المطلوبة في تدبير الشأنين العام والمحلي، بسبب الصراعات السياسوية بين الفرقاء السياسيين، وجنوحهم نحو توظيف الخطاب الشعبوي سواء من موقع الأغلبية أو من موقع المعارضة، والمبالغة في تغليب معايير الزبونية والمحسوبية على معايير الكفاءة والاستحقاق، ما جعل درجة الاحتقان الشعبي من ضعف أداء هذه المؤسسات تصل إلى مستوى مقلق.
أما الأحزاب السياسية فقد انصرف جلها إلى غير ما خلقت من أجله، فلا تفاعل مع قضايا الشعب ولا تأطير ولا برامج حقيقية تغني النقاش العمومي حول القضايا التي تهم المواطنين. ولعل الانتخابات التي تجري بالطريقة المعلومة تغني عن الغوص في المزيد على مستوى تشخيص أعطابها، وليس هناك ما هو أقوى من الخطاب الملكي الذي عبر فيه الملك عن عدم ثقته في العديد من السياسيين.
ما يحتاجه المغرب اليوم هو حكومة قوية ومجالس مبادرة على مستوى الجماعات الترابية، لنزع فتيل الاحتقان الاجتماعي، من خلال نهج سياسات فاعلة تروم ردم هوة الفوارق الاجتماعية والمجالية، واعتماد إجراءات وتدابير تعيد الثقة إلى نفوس المواطنين.
فلا يعقل أن يظل مشروع الجهوية المتقدمة يراوح مكانه، ولا يختلف في شيء عن النظام الجهوي السابق سوى بتغيير أسماء وحدود الجهات وتقليص عددها من 16 إلى 12، مثل ما لا يعقل أن تعجز الحكومة عن إعداد نظام جيد للامركزية واللاتمركز، وتنتظر أن يتدخل الملك لتوجيهها كما كان الشأن بالنسبة للتدابير والإجراءات الاجتماعية التي دعاها إلى تنفيذها في خطاب 20 غشت لهذه السنة.
فما الذي منع الحكومة السابقة ويمنع الحكومة الحالية من النهوض بقطاع التربية والتكوين، والصحة والشغل وإصلاح الإدارة وتحديث طرق وآليات اشتغالها؟ هل قلة الموارد المالية، وقد علمنا أن ميزانيات ضخمة قد تم ضخها في برامج حكومية همت هذه القطاعات الاجتماعية؟ أم أن الأمر مرتبط بالبيروقراطية وغياب الحكامة؟ ومهما تكن الأسباب الكامنة وراء ذلك فما يهم الشعب هو النتائج، أما ما عدا ذلك فهو شأن تتحمل فيه الحكومة وحدها مسؤوليته.
ولماذا لا يسمع صوت النخب من المفكرين والمثقفين والفنانين في ما يخص مصالح البلاد والعباد كما كان يفعل الجيل السابق، فعوض أن يستثمر هؤلاء مؤهلاتهم الفكرية ومواهبهم الفنية في إبداعات من شأنها أن تتحول إلى ترياق قاتل لسموم الشعبوية واليأس والعدمية الزاحفة على جسد المجتمع، أمعن هؤلاء في اصطياد الفرص في الداخل والخارج لتضخيم أرصدتهم البنكية، وقد كان حريا بهم استثمار ذكاء عقولهم ورقة قلوبهم في اقتراح الحلول للمعضلات التي تواجه المغرب، وترسيخ القيم وتهذيب الأخلاق في نفوس الجيل الصاعد.
خلاصة القول، وكما قال الملك في خطاب افتتاح السنة التشريعية الجديدة، “..فالمغرب يجب أن يكون بلدا للفرص، لا بلدا للانتهازيين. وأي مواطن، كيفما كان، ينبغي أن توفر له نفس الحظوظ لخدمة بلاده، وأن يستفيد على قدم المساواة مع جميع المغاربة، من خيراته، ومن فرص النمو والارتقاء”.
فهل استوعبت النخب المنتمية للأحزاب السياسية أو التقنوقراطية، أن المغرب ما عاد يقبل بجحود نخبه، التي أهلها بضرائب أبنائه تعليما وتكوينا ورعاية، سيما وهو في أمس الحاجة إلى خبراتها التي لا يستفيد منها للأسف، وتستفيد منها مراكز الدراسات الخاصة مقابل تلقيها آلاف من الدولارات واليوروهات؟
ولذلك قال الملك مخاطبا الحكومة والبرلمان والمجالس الجماعية والنخب، “والواقع أن المغرب يحتاج، اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إلى وطنيين حقيقيين، دافعهم الغيرة على مصالح الوطن والمواطنين، وهمهم توحيد المغاربة بدل تفريقهم؛ وإلى رجال دولة صادقين يتحملون المسؤولية بكل التزام ونكران ذات”.